الثلاثاء، 20 ديسمبر 2016

حول الرياضة المغربية وإشكالية تقهقرها


Résultat de recherche d'images pour "‫حول الرياضة المغربية وإشكالية تقهقرها‬‎"

لا يخفى على أحد ما تعانيه الرياضة المغربية اليوم من تدهور خطير وعثرات متكررة عصفت بجل الألعاب الرياضية الفردية منها والجماعية، إذ تأكد هذا الفشل بشكل لا يدع مجالا للشك خلال الألعاب الأولمبية الأخيرة في البرازيل، و لم تكن المشاركة المغربية مخيبة للآمال قط لان الأمل لم يعقد عليها في الأساس، بل كانت مخجلة بالنظر إلى ما حققه المغرب على الأقل من ميداليات متواضعة في الدورات السابقة، وتساءل المتتبعون عن أسباب هذا الإخفاق وتراجع مستوى الرياضة الوطنية وغياب التنافسية بشكل ملحوظ، الأمر الذي دفع الجمهور المغربي المحب للرياضة كعادته إلى هجر الملاعب وإدارة ظهره لكل ما هو رياضي، حيث فقد الثقة تماما في أية نتائج يمكن أن تتمخض عن رياضة بهذا المستوى بعد اشمئزازه من تكرار النكسات الواحدة تلو الأخرى.
إن فشل الرياضة الوطنية ناجم عن اهتراء منظومة بأكملها عجزت عن تقديم الأفضل ورسم البسمة على وجوه المغاربة، إضافة الى افتقارها للأهلية والتميز لجلب الألقاب التي باتت اليوم تتطلب لآليات تعتمد على قواعد مضبوطة، ودراسات علمية دقيقة، ومشاريع جادة لإعداد الابطال والتخطيط المحكم لهدف واضح وجلي ألا وهو اعتلاء منصات التتويج.
لقد سئمنا من الشعار الخالد للرياضة المغربية "المهم هي المشاركة"، ما يترسخ في الذهن ويعترف به التاريخ هي الألقاب، ولا شيء غيرها، وتأملوا في نهائيات أمم أوربا على سبيل المثال حين يتم إهمال مقابلة الترتيب لان المهم هو الفائز باللقب الأوروبي، فحتى الوصيف لا يلقى عندهم الثناء المطلوب. إن عدم معانقة الذهب أو ما دونه في المحافل الرياضية الدولية يعتبر فشلا ذريعا في حد ذاته مهما كانت الظروف وانتصارا كبيرا للمنافس الذي عرف كيف يقتنص الفوز كونه استعد بصورة أفضل، إنه تمثيل لبلد، لألوان علم، وليس مجرد مشاركة في لعبة مسلية، إنها صورة شعب بأكمله يهان حين يفشل ممثلوه في رفع رايته عاليا فوق كل رايات الأمم. ليس العيب في عدم المشاركة للتركيز أكثر في المنافسات القادمة، العيب حين تتحول المشاركة إلى مجرد نزهة تؤخذ فيها الصور وتصرف عليها الملايين لا لشيء سوى للاستمتاع والاستجمام، في حين يقبع الآلاف من الغيورين في بيوتهم وراء شاشات التلفاز إلى ساعات متأخرة من الليل ينتظرون على أحر من الجمر انجازا مفرحا.
من حق كل واحد منا أن يشعر بالنقص والإحباط حين يرى أعناق الأبطال الرياضيين من جنسيات مختلفة وهي تزين بالذهب والفضة والبرونز، ولا يرى من بين هؤلاء من يحمل علم بلاده ويردد كلمات النشيد الوطني بتأثر ممزوج بالدموع، ومن حقنا أيضا أن نحس بالخجل بعد خروجنا من المنافسات بميدالية يتيمة ونحن بلد يتعدى أبناؤه الثلاثين مليونا من بين دول أخرى لا يتعدى سكانها ألافا معدودة ومع ذلك كان لها نصيب وافر من الذهب الأولمبي، هذه الأحاسيس بدأت تُفقد الشارع الرياضي المغربي الثقة في أية أفاق واضحة آو حُلمٍ بفجرٍ جديد تطل معه الرياضة الوطنية وقد بلغت أعلى المراتب وانتشت بحلاوة طعم الفوز.
إن الرياضة مثلها مثل الصناعة والتجارة عمود من أعمدة الدولة، تتطلب بدورها المادة الخام التي تتجسد في نواة البطل المستقبلي، وبرنامج متكامل ومتوازن من شانه أن يصقل ويطور مهارات البطل ويشمله بالرعاية التامة قصد تنميته وتكييفه جسمانيا ونفسيا ووجدانيا، وذلك تحت مراقبة وإشراف نخبة متمكنة قادرة في النهاية على خلق متنافس رياضي بكل مقوماته الفسيولوجية والسيكولوجية.
إنها حلقة معقدة وليست بالعملية البسيطة، فكما يتطلب تكرير البترول مثلا مهارات وتقنيات صناعية خاصة واعتمادات مالية ضخمة لإخراج منتوج قادر على غزو الأسواق الدولية، كذلك الشأن بالنسبة لرياضي القرن الواحد والعشرون، فلا بد من توفير كل الظروف الملائمة، والنبش في الطاقات الرياضية
الموءودة، ورفع سقف التطلعات رغم صعوبة التحديات، والعمل الجاد والمتواصل بعيدا عن أية مناوشات أو مزايدات حتى ننجح في إنشاء جيل من الأبطال بإمكانهم إن يقولوا كلمتهم في المحافل الرياضية الدولية.
أنا من الذين لا يؤمنون كثيرا بعلاقة الرياضة والتقدم العلمي والتقني وما إلى ذلك، إن الإيمان بالقدرات المتاحة والتركيز بنية سليمة على بلوغ الهدف هو الفاصل في تحقيقه في نهاية المطاف رغم بساطة الوسائل والإمكانيات، وخير دليل ما رأيناه جميعا في اولمبياد ريو حين فازت بعض الدول المغمورة رياضيا بالذهب ككوسوفو وفيجي لتتوج مشوارها الأولمبي بميدالية ستبقى خالدة في التاريخ والذاكرة.
هناك بعض المحاولات التي سعت إلى النهوض بالرياضة الوطنية لكنها باءت بالفشل الذريع، فالمشكل إذن نابع من منظومة برمتها تستدعي عاجلا إصلاحها وتأهيلها وفق معايير علمية مجربة ميدانيا.
الوعي الرياضي، البنية التحتية الجيدة، التنافسية، هي قواعد ثلاثة لا بد لنا ان نحن أردنا النهوض بالرياضة المغربية اعتمادها وجعلها على رؤوس أولوياتنا:
الوعي الرياضي مشكلة الرياضة الوطنية الأولى هي انعدام الوعي الرياضي لدى المقبلين على الممارسة، وبغيابه يستحيل القيام بالخطوة الأولى في مسار انشاء بطل يعول عليه في المستقبل، الوعي إجمالا هو رد فعل تجاه كل السلوكيات والممارسات والظواهر في الحياة الاجتماعية وكيفية التعايش والتفاعل معها بتوازن منضبط، فالوعي الرياضي بالنسبة للمتتبع يتجلى في طريقة تعامله مع المحيط الرياضي بحيث يغيب وعيه ويفقد قيمته حين يستحوذ عليه التعصب الرياضي بكل سلوكياته التي تناهض الانضباط الأخلاقي والاجتماعي والقيمي، أو يصاب بداء العنصرية البغيضة مما يخلق حالة من التشنج والاحتقان والكره سرعان ما تتحول إلى صدام دموي وفوضى تحيلنا إلى القرون الوسطى، فينقلب المتتبع الرياضي إلى قنبلة موقوتة تنفجر في وجه المجتمع وتسيء لسمعة الرياضة النبيلة.
أما بالنسبة للممارس فيجب عليه قبل كل شيء أن يكون مؤمنا بقدراته أشد الإيمان، أن يلم بكل قواعد اللياقة البدنية والصحة النفسية ليحافظ على رشاقته ونشاطه الرياضي، خبيرا بآليات التدريب والمتغيرات التي تطرأ عليها مع مرور الزمن، يجب عليه أن يتعلم أن الفوز والنجاح لا يتحققان إلا بالجهد والمثابرة المتواصلين دون كلل أو ملل، وأن البطل المثالي هو من يتجاوز كل الصعاب بسلاح الأخلاق والعزيمة، وهو من يضع أمامه الهدف بدقة فائقة ويكافح لتحقيقه وإخراجه إلى أرض الواقع، ولو تطلب الأمر تقديم التضحيات كالابتعاد عن الملاهي والسهر وخوض المعسكرات التدريبية بعيدا عن الأهل والأصدقاء، فالبطل الحقيقي ليس بالشخص العادي ولا يعيش حياته كالآخرين، إنه يحمل مشروعا ثقيلا على عاتقه، مشروع بلد بأسره وليس مجرد لاعب يُشغل وقت فراغه، وهنا يأتي دور التأطير الجيد والحكيم النابغ من شعور الغيرة على الوطن ونكران الذات، فالبطل لا يُصنع من فراغ بل تؤهله سواعد خفية تعمل وراء الأضواء تحمل هما يفوق ما يحمله البطل نفسه، وما فشل البرامج الرياضية إلا بفعل فشل القيادة الفاقدة للخبرة والدراية المهنية، فلا بد لنا إن أردنا الخروج من هذا المأزق الاستعانة بخبراء لهم من المؤهلات والإمكانيات ما يستطيعون بهما انتقاء المواهب الصاعدة، واكتشاف الطاقات الخارقة، وإزاحة الغبار عن مكامن الضعف والخلل، ورسم طريق معبدة نحو التتويج بالألقاب.
البنية التحتية لا يمكن للرياضة أن تشق طريق النجاح إذا لم توجد قاعدة صلبة ومتينة من التجهيزات الرياضية والملاعب والقاعات وصالات التداريب بنسب تتوافق مع عدد وتوزيع السكان، فهي بمثابة الرئة التي تتنفس عبرها الرياضة، إذ لا يمكن تصور تفوق رياضي في تخصص ما دون أرضية حاضنة لهذا التفوق، ولا يمكن الحديث عن مواهب رياضية في غياب فضاء يتبناها ويصقلها وبالتالي يحميها من الاندثار، ولن تتقدم رياضتنا خطوة واحدة إن لم تُفتح الملاعب الرياضية بالمجان أو بثمن رمزي في
وجه العموم، وإن لم تتراجع الدولة عن وضعها تحت وصاية جمعيات انتهازية تتخذها مشاريعا للربح، تتحكم فيها كيف تشاء فتخصص أثمنة خيالية لأبناء الحي مقابل إجراء مقابلة في كرة القدم، ولا يستفيد من هذه الملاعب سوى القادرون على أداء ثمنها، أما الشريحة الأكبر من الأطفال واليافعين من المتعطشين لإبراز مواهبهم فغالبا ما يتلقون الرفض والإقصاء.
في ظل ما يعيشه التعليم اليوم من وضعية حرجة تستلزم نقله على وجه السرعة لغرفة العناية المركزة، بات من المستحيل ان تنبثق رياضة بالمعنى الحقيقي من بين اسوار المدارس والجامعات، فإصلاح منظومة التعليم هو التحدي الأكبر لمواكبة رهانات المستقبل، والسبيل الوحيد لانتشال الرياضة الوطنية من براتين التخبط والتيه.
لا جرم أن الوسط التعليمي يساعد على تتبع سلوكيات الطفل لوقت أطول، كون هذا الأخير يقضي من الوقت في المدرسة مالا يقضيه في أي مكان اخر، وبالتالي يسهل مراقبته والانتباه الى ما قد يفجره من طاقات ومواهب، وان غض الطرف عن مثل هذه الثروات الثمينة يجعل مآلها الدفن، وقد تتحول الى طاقات سلبية تنحرف بسلوك الطفل الى مالا يحمد عقباه، فمن الضروري جدا وجود لجان متخصصة همها الوحيد التنقيب عن المواهب الرياضية في المدارس والجامعات وفق معايير محددة ومطلوبة، كما أن تشجيع الرياضات التي لا تتطلب نفقات كبيرة خطوة مهمة نحو خلق متنفس جديد والتنويع من الممارسة الرياضية وعدم اقتصارها على أصناف معينة.
التنافسية ان لتعزيز التنافس الرياضي الشريف فوائد كثيرة، منها المساهمة في بناء الشخصية عن طريق تشجيع الاعتماد على النفس وتقليل التوتر والقلق واحترام الآخرين، خصوصا إذا مر في جو من المتعة والإثارة توفر للطفل نمط حياة صحي وسليم، فضلا عن تعليم النشء كيفية حل المشكلات التي يواجهونها وتقدير المسؤوليات والاحساس بالفخر والاعتزاز ومشاركة فرحة الفوز مع الجميع، ويعتبر التنافس الرياضي حقا مشروعا لإثبات الذات والاندماج في المجتمع وتحقيق حلم النجومية، غير أن مراقبة وإشراف الآباء والمدربين أمر بالغ الأهمية لتفادي الانجراف نحو الشغب والعنف.
من الملاحظ ان الرياضة الوطنية تعاني من قلة التنافسية الى حدٍ يُعتبر فيه الفوز والخسارة بالنسبة للمنافس سِيَّان، فلا روحا قتالية في الميدان، ولا إصرارا واضحا يدل على الإرادة الجادة للفوز، بل يدخل الرياضي المغربي غمار المنافسة وقد استقرت الهزيمة في ذهنه مسبقا، فتكون النتيجة طبعا كما توقعها بالفعل هزيمةٌ واقصاء مبكر وخروج من الباب الضيق كما جرت العادة، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة التلاسن وتبادل الاتهامات على وسائل الاعلام، فالرياضي يتذرع بنقص الإمكانيات وضعف الاستعدادات، اما المسؤولون فيعزون الفشل لنقص الخبرة ويعدون بنتائج افضل في المنافسات القادمة، وهكذا مازالت الأمور تدور في حلقة مفرغة منذ أول عهد لنا بالرياضة كمتتبعين على شاشات التلفاز وفي المقاهي، ودائما ما كنا نتشبث بالأمل ليس انتظارا لمعجزات من أحد وانما عشقا للوطن والانتماء.
ان الحديث عن الرياضة الوطنية وإشكالية تقهقرها حديث يطول سرده، فالجرح غائر والتحديات كبيرة جدا تزيد صعوبتها يوما بعد يوم، والاكتفاء بالكلام في مثل هده الأحوال والامتناع عن الأفعال الارادية الجادة تزيد من صعوبة الأمر وتجعل الوضعية على ماهي عليها حتى اشعار اخر.



قرية صغيرة..غموض كبير


حدثت النهضة الرقمية والتكنولوجية التي يشهدها العالم اليوم ثورة في مجال الاتصالات٬ حيث صار من الممكن جدا لأي شخص في أي مكان من العالم أن يتواصل مع شخص آخر يوجد على أبعد مسافة منه في ظرف ثواني معدودة وبكل سهولة٬ كان ذلك يُعد قديما من ضرب المستحيلات لا يصادفه المرء سوى في حكايات ألف ليلة وليلة مثلا، أو عندما يحلق عقله بعيدا في نسج الخيال اللامحدود.
أما وإن أصبح اليوم حقيقة قائمة بذاتها فهذا من شأنه أن يطرح العديد من الفرضيات حول تصور الإنسان المستقبلي وماهية العالم في قادم السنوات. في ظل التغيرات التواصلية التي تمس جوهر الحياة الاجتماعية هناك من ذهب إلى وصف عالمنا هذا بالقرية الصغيرة، وهو وصف إلى حد ما معقول٬ فداخل القرية الواحدة يسهل التواصل بين قاطنيها ويستطيع الخبر أن ينتقل بينهم بسرعة ويسر، وهو بالضبط ما تسمح به اليوم وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات التعارف مع توسيع النطاق الجغرافي ليشمل العالم كله.
فلا يكاد الحدث يقع حتى ينتشر نبؤه في كل أرجاء المعمورة انتشار النار في الهشيم٬ وسرعان ما يبدأ زر الفأرة بمجرد نقرة بسيطة مشاركته بين المعارف والأصدقاء حتى يصبح حديث كل لسان ونقاش كل مجلس، في صياغة لما يمكن نعته بصحافة افتراضية حرة يزاولها العامة دون قيود أو شروط سواء تلك التي تفرضها أخلاقيات المهنة المتعارف عليها أو تلزمها قوانين النشر.
غير أن الخطير في الأمر هو ما قد يشوب هذه العملية في غالب الأحيان من تزوير للحقائق وتزييف مقصود أو غير مقصود لمجريات الأحداث، فما إن يحل الخبر ضيفا على جهة من الجهات حتى تَنْسُبَ إليه سيناريوهات كاذبة ومفتعلة، وتَقُص منه حقائق ثابتة وموثقة قبل أن ترسله بدورها إلى جهة أخرى تنتظر القيام بنفس الشيء، وهكذا يخضع الخبر الافتتاحي لعملية جراحية تُستأصل فيها كل مفاصله الرئيسية وأعمدته الأساسية ويُفرغ من مضمونه الأصلي فيتحول في النهاية إلى ما يمكن تشبيهه 'بحقيقة مكذوبة'٬ خصوصا وإن كانت هذه الزيادات السينمائية لا تخلو من التشويق والإثارة و وهو بالضبط ما يحبذه الناس عادة، مما ينتج عنه حالة من الغموض والارتباك يضيع في غيباتهما المتتبع إلى حد تلتبس عليه الوقائع فلا يدري ما يصدق منها وما يرمي وراء ظهره، كما يصاب العديد من الناس بحالة من الاستياء والملل تدفعهم إلى أن يواجهوا هذه الدائرة الإعلامية المربكة بكثير من التجاهل وقليل من الاهتمام، وسرعان ما يفضلون رؤية شارة النهاية لفيلم يعتبرونه سخيفا لا طائل من ورائه.
هناك العديد من الأحداث التي شكلت قنبلة إعلامية ضخمة ومادة استهلاكية دسمة تناقلتها جل وسائل الإعلام الدولية بمجرد ظهورها، وانتهت مع ذلك بألغاز ما تزال شفراتها غامضة إلى اليوم.
إن ما يميز نوعية هذه الأخبار رغم تداولها على نطاق واسع هو قصر مدة حياتها فلا تكاد تتغلغل بين شرايين المجتمعات حتى يدفنها النسيان في الذاكرة الميتة إلى الأبد، ويعمها الفتور، وهذا من شأنه أن يخدم جهات ومصالح وجدت في ذلك متنفسا عميقا وخروجا آمنا من الباب الضيق.
على العكس من ذلك نجد أن كثيرا من الأحداث التاريخية ورغم مرور زمن طويل عليها تظل حاضرة بيننا بكل وقائعها وتفاصيلها الدقيقة، مدونةً في مصادر تاريخية وان كانت مختلفة التوجه والميول فقد استطاع أغلبها أن يحافظ على جوهر المضمون وعلى السياق الصحيح للوقائع كما حدثت بالضبط، فلبست بذلك رداء الثقة والمصداقية، واستطاعت أن تتبوأ سدة المرجعية التاريخية وتصل إلى ما يشبه الارتياح أو الإجماع على صحتها، ولنا في تاريخنا الإسلامي أمثلة لا حصر لها، هذا ما جعلنا نثق في التاريخ أكثر مما نثق في الواقع المصور أمام أعيننا، فهل فقد الواقع مصداقيته؟ والخبر قيمته؟ وما هي الآليات التي سيُحفظ بها تاريخنا للأجيال القادمة؟
يبدو أننا وسط غابة متشابكة الأفكار والأحداث تحجب عنا ضوء الشمس فلا نرى الحقيقة، وغالبا ما يخلد الباحثون والمدققون بعد مجهود مضني للراحة تحت ظلالها معلنين الانسحاب ومحكمين بذلك لضمائرهم، بينما يفضل البعض الآخر الانغماس عمدا في فوضى المعلومة الخلاقة لتحقيق مآربهم وأهدافهم غير النبيلة٬ ويبقى المتتبع البسيط بين مطرقة الركض وراء كل ما هو جديد، وسندان فقدان الثقة تجاهه، لاعبا دور الزبون المثالي لسلعة رخيصة يدفع ثمنها من وقته وتركيزه دون أن يدري وربما تساهم أيضا في تغيير منحى أفكاره وتوجهاته، ومن هنا تنبثق 'سلطة التحكم' كقوة فاعلة خصوصا وإن وجدت أمامها فريسة ضعيفة الشخصية يسهل الانقضاض عليها.
أمام كل فرد منا تاريخ حديث يصنع أمام عينيه من الصعب توثيق جميع مجالاته،  حيث يميل الإنسان أكثر لسرد كل ما هو جميل تماشيا مع طبيعته العاطفية، فحتى مصطلح ما بعد الحداثة الذي ظهر في عام 1949 اقترن أكثر بوصف حركات الفن وليس فترات من التاريخ الحديث، كما يتحاشى الإنسان في نفس الوقت الخوض في غمار المجالات السياسية والاقتصادية بالغة الحساسية، ليس خوفا أو هروبا منها ولكن للمتناقضات الكثيرة التي تصاحب عملية تدوين مثل هذه الأحداث في 'سجلات التاريخ'، والتي أفرزتها فوضوية وسائل التواصل نفسها، بالإضافة إلى وجود جهات إعلامية وازنة تحاول قدر الإمكان تزوير أو محو كل حقيقة تاريخية لا ترغب في بقاءها، مستغلة وسائط الاتصال السمعي البصري وتأثيرها المباشر على فئات عريضة من المجتمع، ومستعدة لتقديم ثروات ضخمة في سبيل تحقيق مبتغاها.
مع التراكم والزيادة المضطردة يوما بعد ٱخر لمنسوب المعلومات على مستوى وسائل التواصل الاجتماعي والإعلامي المختلفة، أصبح لزاما تحري النظر في مدى مصداقيتها وطريقة الحصول عليها، رغم صعوبة المهمة تبقى هناك مجموعة من المعايير لابد أن تؤخذ بعين الاعتبار وهي :
*الإجماع على سياق واحد للأحداث
*ذكر المصادر التي استخدمت في تقل المعلومة تكون معروفة وموثوق بها
*المُصدّر للمعلومة يجب أن يتصف باحترامه للرأي والرأي الآخر
*الخبرة والمهنية وتقصي دقة المعلومة يجب أن تكون من أولويات الساهرين على نقلها
*الحياد التام وعدم تغذية أفكار أو توجهات معينة
*التزام الموضوعية وعدم الترويج لشائعات مختلقة، فالمتلقي للمعلومة من الممكن أن يصبح ناشرها
*وضع الضوابط والتشريعات التي تحفظ المعلومات المتداولة من التعرض للتزييف المتعمد.

فلا بد لنا إذن والحالة هذه من إعمال العقل وتوخي الحذر في تلقينا لكل ما هو جديد إعلاميا وافتراضيا، سيما مع تسارع وتعاقب الأحداث الفاعلة في عالمنا اليوم، كما أن لتشجيع البحث المجرد القائم على أسس علمية سليمة دور كبير في تقصي دقة المعلومة وصحتها، وعدم الانسياق وراء أي جهة من الجهات رغم شهرتها وانتشارها والتي تدعي سيطرتها على منابع المعلومة، والتفكير ألف مرة قبل منحها الثقة.


السمّاك أو صاحب الدبلوم


                               
لم تعرف قضية من قبل من الاهتمام والتعاطف مثلما عرفته قضية محسن فكري الأخيرة،  بحيث لم يقتصر تداولها على الصعيد الوطني فحسب، بل انتقل صداها إلى كل أقطار العالم شرقا وغربا بما في ذلك أروقة الأمم المتحدة التي قلما تُذكر فيها حتى القضية الفلسطينية بخير، وخلف الحادث استياء عارما وتأثيرا كبيرا في نفوس كل المغاربة الغيورين على نخوة الإنسان المغربي وحقه في عيش كريم، ولعل ربط الواقعة بطريقة وفاة محسن فكري المأساوية هو من أجج فتيل الاحتجاجات في كل ربوع المملكة، حيث خرجت كل المدن تقريبا إلى الشارع وعبرت بشكل سلمي على أنها ترفض رفضا قاطعا أن تمس كرامة المواطن المغربي إلى درجة أن يُطحن داخل حاوية أزبال دون رحمة.
كان محسن فكري قيد حياته سماكا كما هو معلوم، وهو ما يُطلقُ عليه بالعامية ‘ حوّات '، ولعل هذه الكلمة في أعرافنا غالبا ما تحيلنا إلى اعتبار صاحب هذه المهنة إنسانا منحرفا إن لم يكن ذو سوابق عدة، غير أن المرحوم وإن لم يتابع دراسته الجامعية لظروف قاهرة فهو حاصل على دبلوم في الصيد البحري ولم يقتحم غمار مهنة السمك الشاقة عن جهل، بل عن دراية ومعرفة بالميدان، تعززهما شهادة علمية مسلمة من وزارة التعليم لم تكن فال خير عليه ولم تشفع له في البحث عن قوت يومه بل كانت سببا في موته بتلك الطريقة المحزنة كما عاينها الجميع، ولعل الصورة بكل حيثياتها وأحداثها قد أماطت اللثام عن مجموعة خروقاتٍ وتجاوزاتٍ لا تعد ولا تحصى، وبينت حجم المعاناة التي يكابدها خريجو المدارس والجامعات المغربية من تهميش ونسيان.

أبناء الحسيمة العظماء، هكذا وصف المغاربة قاطبة على صفحات الفايسبوك تعامل أبناء مدينة الحسيمة مع الحادث، ونعتوه بالرزين والحكيم، إذ لم تخرج الاحتجاجات عن سياقها الطبيعي ومرت في جو من التحضر والانضباط وإحساس بالمواطنة، باعثة برسائل دقيقة لكل من سولت له نفسه وصف أبناء الحسيمة الأشاوس حفدة المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي بنعوت مسيئة واتهامات باطلة مجحفة إن دلت على شيء فإنها تدل على عقدة المتطاولين وإحساسهم بالنقص والإذلال، إنها فتنة الحسيمة التي فتنت العالم من شدة رقيها وتنظيمها، فتنة فتنت أولئك الغوغائيين الذين انسحبوا بهدوء وخيبة أمل مريرة بعد أن فشل مخططهم في تقمص دور المتنبئين العظماء والمنجمين الحكماء والمحللين السياسيين الجهابذة ممتطين ظهور منابر إعلامية منحطة هدفها بث الخلاف والإنفراد بالأكاذيب لكسب أكبر عدد من المتتبعين. على المسؤولين أن يعوا رسالة الشارع جيدا، فهي واضحة وضوح الشمس خالية من أي غموض والتباس، رسالة عنوانها وبكل تواضع العيش الكريم بلا سيارات فارهة ولا تقاعد بالملايين، على أصحاب القرار أن يفهموا أنهم جاءوا لخدمة الشعوب وليس لخدمة مصالحهم، وأن يلتفتوا قليلا لكائنات حية تسير على وجه الأرض تدعى بالمواطنين، وأن لا يتذكرونهم فقط عند حلول فصل الانتخابات المزهر حين يتم  تقسيم الكعكة الكبيرة أو الغنيمة كما وصفها الملك محمد السادس في خطاب المسيرة الخضراء، عليهم أن يدركوا أن الملك ضاق ذرعا بتصرفات لا مسؤولة وتجاوزات لا معقولة تسيء لمكانة المغرب أمام العالم وتشوه المسار الديمقراطي لبلد قادر بكل مقوماته الاقتصادية والاجتماعية والطبيعية أن يصبح قوة رائدة وشعلة مضيئة في قارة إفريقيا كلها مما جعله ينتفض في خطاب افتتاح البرلمان الذي جاء دعما للمواطن المغربي أينما حل وارتحل.

نحو إعلام قوي ومصداقي



الإعلام مصطلح  يطلق على أية وسيلة أو تقنية رسمية أو غير رسمية مهمتها نشر الأخبار ونقل المعلومة، وقد وصفت بالسلطة الرابعة نظرا لتأثيرها العميق والواسع على المجتمعات في مختلف مناحي الحياة، وعبورها كل الحدود دون مبالاة، ومصطلح الإعلام اليوم أصبح واسع الامتداد، ومتشعب الفروع، بسبب الثورة الرقمية وانتشارها الكبير.
 تطلق على التكنولوجيا التي تستخدم في مجال الإعلام والمؤسسات التي تديرها اسم وسائل الإعلام، وهي ترتبط بشكل وثيق مع مستوى التقدم التقني والتكنولوجي، فلكي تمتلك إعلاما قويا لابد من امتلاك أرضية تكنولوجية متينة تمكنك من المنافسة وسط عالم متشابك ومتطور من تكنولوجيا المعلومات.
انتقل الإعلام من دوره في التواصل مع الجمهور وتمثيل الرأي العام إلى التأثير فيه بشكل مباشر والتحكم في توجهاته ومساراته محاولا لعب دور الوصاية والرقابة العامة، حيث كان طرفا رئيسيا في العديد من القضايا السياسية الحاسمة، وتجلى كقوة وازنة يمكن الاستعانة بها لتحقيق مأرب سياسية غير متوقعة، وخير مثال على ذلك ما وقع في مصر إبان ثورة 25 يناير و30 يونيو 2011 حين أصبحت سياسة الدولة كرة يلعب بها ساسة الإعلام كيفما شاءوا، وتتشدق كل جهة إعلامية بحرصها على الموضوعية والمهنية في إيصال المعلومات للناس، في حين أن أغلب الفضائيات تساهم بشكل أو بآخر في تمزيق الوطن العربي وتغذية الأحقاد البينية.

ظهر مؤخرا مصطلح الإعلام الجديد ويمكن اعتباره كانبعاث لمصطلح الإعلام التقليدي ومحاولة لانتشال هذا الأخير من النخبة المتحكمة فيه، وفتح الباب بمصراعيه أمام كل فئات المجتمع المدني لتبني الإعلام بحلته الجديدة والاستعانة به في مواقف مختلفة وفق  أساليب متنوعة لنقل الحقائق بحياد وتجرد، و يروج حاليا
مصطلح الإعلام الجديد بمرادفات عدة، كالإعلام الاجتماعي، والإعلام البديل، ولكل هذه الكنايات دلالات معبرة  فهو وسع من دائرة المشاركة بشكل غير مسبوق ومنح مساحات واسعة لمختلف الفئات الاجتماعية للانخراط في مسلسل المعلومات اللامحدود، خصوصا بعد غزو مواقع التواصل للحياة الاجتماعية،  والانفتاح الواسع على العالم الافتراضي، إضافة إلى بروزه كأداة بديلة انسلخت من إيديولوجية الإعلام التقليدي، مما ميز الإعلام الجديد وسط كل هذه التغيرات بالعديد من الخصائص كالتفاعلية بين الأطراف المتواصلين  وضمان إمكانية النشر بأساليب بسيطة، إضافة إلى المرونة والكونية التي اختزلت العالم وتخطت حواجز الزمان والمكان.
لن أخوض هنا بإسهاب في إشكالية الإعلام التقليدي والإعلام البديل كما يسمونه، وإن كانت إشكالية جديرة بالبحث صراحة، ما أقصده هنا هو الإعلام بشكل عام سواء المعتمد على القنوات الإذاعية و الفضائية أو ذاك الذي يستغل العالم الافتراضي مسرحا له دون إغفال الصراع الكبير الذي يجمع بين الطرفين، فالأول يمكن التحكم فيه وضبطه بشتى الآليات، أما الثاني فخارج عن نطاق السيطرة قادر باختصار على إشعال حروب وإخماد أخرى، وهنا تكمن خطورته.
لقد شكل الربيع العربي محكا حقيقيا لإعلام العديد من الدول العربية التي وجدت نفسها امام كم هائل ومتواصل من المعلومات مما خلق لها حالة من التيه والارتباك لعدم قدرتها على التأكد من مصداقيتها ومطابقتها للمعايير المتعارف عليها، بل ولافتقار أغلبها للوسائل والتجهيزات الضرورية التي تضمن الوصول الأمن والاني للمعلومة.
يفتقر الإعلام العربي للنزاهة والمصداقية، ويتحكم فيه أباطرة المال الذين وجدوه أرضا خصبة يجنون منها أموالا طائلة ضاربين عرض الحائط ذوق الانسان العربي وحقه في أن يُحترمَ ذكاؤه وفكره، بل واتخذه بعضهم منبرا متحيزا يعبرون من خلاله عن مواقفهم السياسية وآراءهم الشخصية في جميع المستجدات، وأدت صعوبة المشهد السياسي العربي إلى نشوء تحالفات عدة انعكست بشكل سلبي على الرسالة الإعلامية النزيهة في نقل الحقائق دون تزييف أو تزوير، حيث ظهرت فئات اجتماعية مناصرة لإمبراطوريات إعلامية معينة ومناهضة لأخرى فتاهت الحقيقة وأصبحنا الحلقة الضعيفة والمريضة في الإعلام الدولي.
أكاد أجزم أن في المستقبل القريب سنجد أنفسنا أمام تحد إعلامي كبير خصوصا ونحن نحتل مراتب جد متأخرة إعلاميا بالمقارنة مع غيرنا، هذا التحدي سيفرض علينا إن نحن شئنا مقارعة التحديات والدفاع عن قضايانا الجوهرية والوطنية من تكالب الإعلام الواهم، امتلاك ترسانة إعلامية قوية مثل حرصنا تماما على امتلاك أسلحة الدفاع عن سيادتنا، فالذي يسيطر على وسائل الإعلام يسيطر على العقول  كما هو معروف، وعلى الماضي والحاضر والمستقبل كذلك، فلولا الأوهام التي سوقها الإعلام الغربي الكاذب لما استبيح العراق بذريعة امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل، وكذلك عجز الإعلام وتماطله في نقل ما يجري من انتهاكات خطيرة في بورما، وتشويه القضية الفلسطينية على الساحة الدولية حتى من الإعلام العربي نفسه، باعتبار الفلسطينيين مخربين ومعتدين، بيد أنهم هم من تعرضوا للاحتلال أصلا واقترفت في حقهم أبشع الجرائم، ناهيك عن تشويه الإعلام الإسباني لقضية الصحراء المغربية وتصوير أغلب منابر الإعلام الدولية لما يجري في سوريا من مذابح ضد الشعب السوري على أنه صراع متكافئ القوى، وطمس الإعلام الأمريكي إلى حد المسح من الذاكرة جريمة الولايات المتحدة إبان الحرب العالمية الثانية في حق هيروشيما ونكزاكي 1945 ثم إشادته في نفس الوقت بمُثُل الحرية والديمقراطية التي يتباهى بهما المجتمع الأمريكي لا لشيء سوى لأن أمريكا تمتلك في وقتنا الراهن أعتى المؤسسات الإعلامية، لما تمتاز به من مؤهلات وإمكانيات بشرية ومادية على أعلى مستوى وضعتها في أولى مراتب المهنية الإعلامية حول العالم، فإلى جانب كونها مؤسسات تصنع المادة الإعلامية، باتت تمثل إمبراطوريات إعلامية ضخمة، تمتلك رؤوس أموال عاتية النفوذ والتأثير، وغير ذلك من الحقائق التي يراد بها باطل وباطل يصور على أنه حقيقة مثلى.
 في خضم هذه التناقضات الصارخة ما علينا إلا أن نسعى إلى ترسيخ قيم المصداقية والمهنية في إعلامنا وإنقاذه من قبضة المستثمرين الذين لا يسعون إلا لتحقيق الأرباح الطائلة، وتجنب استصغار العقل العربي فهو بدوره يميز ويفكر، وتحسين المادة الإعلامية العربية حتى تواكب ركب التطور، ثم لا مناص لنا من تطوير ٱلياته وإصلاح قاعدته سواء المرئي أو المسموع  منه وحتى المكتوب، وتحرير الإعلام الجديد، بالإضافة إلى تأهيل الكتيبة الإعلامية والبحث عن المواهب الحقيقية البعيدة عن المحسوبية. 

قتلت مليون إنسان!... أنا آسف!




الأسف رد فعل نبيل يعبر به المرء إن هو أخطأ في حق أخيه كأن يتحاشاه في مجلس السلام مثلا دون قصد، أو يلمسه بحركة طائشة دون نية في ذلك، فيطلب منه العفو مبديا تأسفه وخجله، وغالبا ما تنتهي هذه المواقف بالصفح بين الطرفين فتتفرق النفوس وقد خلت من أي أثر أو حزن، هذا هو المعمول به أو المتفق عليه من المواقف الإنسانية حيثما ذهبت، لهون دواعي الأسف في هذه الحالة، وخروج السبب من دائرة العمد والقصد.
ولكن أن يخرج إلينا شخص ذو منصب سياسي رفيع، وبكامل إدراكه الحسي والعقلي، يتربع على رأس دولة يضرب بها المثل في الديمقراطية وحقوق الإنسان، معلنا لوسائل الإعلام الدولية أسفه على غزو بلد حر ذو سيادة، نجم عنه مقتل آلاف المدنيين الأبرياء، ودفن قرى بأكملها تحت الأرض، وتهجير وتشريد آلاف آخرين نحو المجهول، وحصار خانق طويل الأمد نتج عنه وفاة الآلاف جوعا ومرضا في غياب أدنى وسائل الرعاية والتطبيب، كل هذه الجرائم لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تلغيها من الوجود أو أن تطمسها من التاريخ بمجرد كلام يعبر صاحبه به عن تأسفه وتأثره لما جرى، خصوصا وإن كان هو أحد المسؤولين عن كل هذه المعاناة حيث تمت باسمه ومباركته.
وإذا عدنا قليلا لتاريخ الإنجليز في الحروب العالمية وما قبلها فسنجده أسودا كالليلة الظلماء، لا يخلو من مذابح وتجاوزات خطيرة في حق الإنسانية، تميط القناع عن كيان دموي متوحش لا يكترث لا للمواثيق الدولية ولا لحرمة الدماء البشرية، فمثلا في ايرلندا الشمالية ثمة العديد من الشواهد التي توثّق لوجود جرائم قتلٍ عديدة ارتكبها الجنود الإنجليز في حقّ مواطنين مدنيّين وغير عسكريّين في الفترة الممتدّة بين عامي 1970 و2000 حيث أقدم جنود تابعون للجيش الإنجليزي على قتل ما يزيد على 300 مواطن ايرلندي، بينهم نساء وأطفال، كان جميع هؤلاء الضحايا من الأفراد العاديين وغير مسلحين، ولم يكن أحد منهم يشكّل أيّ نوعٍ من الخطر على أحدٍ من الجنود الإنجليز. كما عُرف على النظام البريطاني أسلوبه الممنهج في  التعذيب واستعماله للغازات السامّة في النزاعات، حيث أوردت صحيفة الغارديان البريطانية، أنّ خبراء الجيش البريطاني قاموا بإجراء اختبارات باستخدام غاز الخردل القاتل على المئات من الجنود الهنود خلال تجارب استغرقت أكثر من عقد، وبدأت قبيل الحرب العالميّة الثانية وقد أدّت هذه التجارب إلى إصابة أعدادٍ كبيرة من الجنود الهنود بحروق خطيرةً  ووفاة أكثرهم. 
وجاء في تقرير نقلاً عن مستندات في الأرشيف الوطني أنّ أكثر من 20 ألف جندي بريطاني أُخضعوا لتجارب خوض حروب كيمائيّة خلال الفترة الممتدّة من عام 1916 حتى العام 1989 في مركز (بورتون داون) للأبحاث، وشملت تلك التجارب عدداً من الغازات السامة كغاز الأعصاب، وغاز الخردل، وكان مما تهدف إليه هذه التجارب تحديد مقدار الغاز اللّازم لإحداث أضرار جسيمةٍ بالعدوّ في ساحة الحرب. 
كما لا يخفى على باحث في الحرور العالمية إقدام إنجلترا على الإبادة الجماعية لـ 600 ألف ألماني بأمرٍ من تشرشل، ففي 11 مايو 1940 وتحديداً بعد يومٍ واحد على تعيينه رئيساً للوزراء ووزيراً للحرب، اتخذ ونستون تشرشل قراراً يقضي بتوجيه أوامر للقوات الجوية البريطانية بتوسيع نطاق الهجمات الجوّية على المدن الألمانية، وقال قولته المشهورة "اقضوا عليهم جميعاً" كان الهدف الذي سعت إليه قوات الحلفاء هو القضاء على الشعب الألماني بأفظع شكلٍ ممكن.
ومن الجرائم النكراء التي اقترفها تشرشل، القصف الكيميائي للعراق في إطار اختبار الأسلحة الكيميائيّة، وبحسب تقريرٍ نشرته صحيفة الحياة، يعود تاريخ استعمال أسلحة الدمار الشامل في العراق إلى بدايات القرن العشرين، حيث كانت السلطات الإنجليزية تدافع بشدّة عن استعمال هذا النوع من الأسلحة المحرمة دوليا، كما عمدت قيادة القوّات الإنجليزية في الشرق الأوسط والتي لم تتوانَ عن بذل أي جهدٍ في سبيل قمع المعارضين للاحتلال الإنجليزي في تلك المنطقة، عمدت إلى تجربة أسلحتها الكيميائية على العرب الذين قاوموه بشدةٍ آنذاك، وكان ونستون تشرشل وزير الحرب والطيران الإنجليزي في تلك المرحلة، قد أعلن دعمه لهذه الأسلحة من خلال سماحه باستخدامها ضد العشائر العراقية، حيث استهدف القرى الآمنة بالقصف والقذائف الثقيلة وكل ذلك جرى في ظل رئاسة إنجلترا لمنظّمة الأمم المتّحدة. والغريب في الأمر أن احتلال العراق بعد ذلك كان بذريعة محاربة أسلحة الدمار الشامل والأسلحة البيولوجية والكيميائية.
وفي الهند إحدى المستعمرات البريطانية تعرضت عام 1942 لمجاعةٍ قاسية بفعل الممارسات الاستعمارية التي قام بها تشرشل، حيث وجّه أوامره بتحويل السفن التي كانت تنقل المواد الغذائية نحو الهند إلى مسارٍ آخر، وانشغلت تلك السفن بنقل التجهيزات والأطعمة للقوات العسكرية الإنجليزية في شمال أفريقيا، مما تسبّب في مجاعةٍ كبرى أدّت إلى فقدان أكثر من 5 مليون مواطنٍ هندي حياتهم.

توثق هذه الأحداث وغيرها دموية بريطانيا وارتكابها أفظع الجرائم ضد الإنسانية، وطبعا رئيس الوزراء المتأسف طوني بلير لا يشكل استثناء في سلالة ملطخة بالدماء، فهذا الشبل من ذاك الأسد، وهو متهم بارتكاب جرائم حرب في العراق إلى جانب شريكه في القتل بوش.
تسببت حرب العراق 2003 التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية مع حليفتها بريطانيا مقتل مئات الآلاف من العراقيين، ولم تتردد القوتان المتحالفتان في إحراق الأخضر واليابس على مرأى ومسمع من الأمم المتحدة التي اكتفت بالمشاهدة فقط والاستمتاع بجثث الأطفال العراقيين المنتشرة في شوارع بغداد،
واتُهم الجنود البريطانيين بارتكاب جرائم عديدة خلال الحرب العدوانية تمثلت في تعذيب الأسرى بأسلوب ممنهج، وقتلهم بأبشع صور وإساءة معاملتهم، غير أنّهم كانوا دائماً ما يخرجون من هذه الاتهامات دون محاكمة ولا جزاء،  ولحد الآن، لم يخضع أحد من الجنود أو الضباط البريطانيين المتهمين لمحاكمةٍ جادة، ولم يَلْقَ أحد منهم العقوبة التي يستحقها.
ومن أجل طمس فضيحتها وامتصاص ردود الأفعال الدولية الغاضبة، عمدت وزارة الدفاع البريطانية إلى دفع تعويضات لبعض العائلات المكلومة وصلت إلى 2,83 مليون دولار كعائلة بهاء موسى وعائلات تسعة أشخاص آخرين كانوا قد تعرضوا بدورهم إلى انتهاكات من قبل القوات البريطانية، وكانت هذه الخطوة وسيلة فاشلة لتجميل صورة القوات البريطانية وتغطية جرائمها في العراق.
غير أن السؤال الذي يطرح نفسه ما محل جامعة الدول العربية والأمم المتحدة مما جرى ويجري من مسرحية مضحكة مبكية بطلها طوني بلير؟ ألم يكن بالأجدر على الجامعة العربية الرد بلغة حازمة على هذا المعتوه المخرف وإيقافه عند حده على الأقل؟ ثم رمي أسفه على وجهه حتى يكون عبرة لغيره؟ فإذا كان البرلمان البريطاني قد اتهم طوني بلير في تقرير من مليون كلمة فنحن بوسعنا أيضا توجيه اللوم إليه على جرائمه التي اقترفها في العراق بمباركة وإشادة أمريكية بتقارير تتعدى المليار كلمة، ثم أين تكمن أهمية الجنايات الدولية إن كان مثل هؤلاء خارج قضبان الحديد وفوق سلطان العدالة؟ ولماذا لا تخرج الجامعة العربية ببيان استنكاري تشجب فيه تصريحات طوني بلير التي استفز بها الشعور العربي إن تبقى هناك شعور أصلا، وجرح بتصرفه المريب قلوب الملايين من الغيورين على كل قطرة دم عربية سقطت فداء للحق والحرية.

أقول وبكل بساطة لأن الدول العربية كانت طرفا رئيسيا في الحرب الدموية على العراق، بغض النظر عن تحركاتها المحتشمة وغير الجادة في اتجاه إصلاح ما يمكن إصلاحه قبل بداية الهجوم الشامل، لقد كانت على علم يقين بكل التفاصيل الصغيرة والكبيرة وحتى النتائج الكارثية التي يمكن أن تعصف ببلد عربي كان يومها على طريق الازدهار، فباعتبارها شريكا فاعلا في مأساة العراق لا يمكنها بين يوم وليلة لعب دور الحمل الوديع المرهف الأحاسيس الذي سرعان ما يتأثر بكلام أو تصريح هنا وهناك، لعله السلاح الذي تنتظر إنجلترا استخدامه ضد جامعة الدول العربية أو أحد أعضاءها إن هي فاهت ببنت شفة، أو أزعجت لندن بكلام لا تريد هذه الأخيرة سماعه خصوصا وهي تتخبط اليوم في احتقان شعبي بعد خروجها من سلطة الاتحاد الأوروبي، أما الدول العربية فهي ما زالت تدفع ثمن أخطائها الاستراتيجية الكبيرة ولسان حالها يقول أُكلنا يوم أكل الثور العراقي.

فن التكرار بامتياز

لطالما نُعتت السياسة بالعديد من الكنايات والتوصيفات، فهي كغيرها من المصطلحات اللغوية لها تعريفها العام لكن حين نخوض في تدقيق مدلولها نجدها بمعاني مختلفة ومتشعبة.
اختلفت المدارس الفلسفية في تعريف السياسة، فقد عرفها الشيوعيون بدراسة العلاقات بين الطبقات، وعرفها الواقعيون بأنها فن الممكن، كما نعتها أرسطو بالسعادة الجماعية وأن وظيفة الدولة هي أن تقيم مجتمعاً يحقق أعظم سعادة لأكبر عدد ممكن من الأفراد. وبشكل عام فإن السياسة هي كل ما يتعلق برعاية شؤون الدولة سواء الداخلية منها أو الخارجية.
 وتُعرَّف السياسة على أنها فن التعامل مع العدو، إذ يمكن اعتبار هذا التأويل الأكثر حمولة للمعنى والأقرب إلى تفسير العلاقات الخاصة التي تربط الدول فيما بينها، ويقال أن السياسة فن الممكن أو الواقع إذا كانت فعلا ما تصبو إليه وتسيس له يدخل في خانة الممكنات، سواء من جهة المواطنين الذين لا تتعدى مطالبهم أساسيات الحياة العادية، أو من جهة السياسيين أصحاب النفوذ الذين لا يرفعون سقف أهدافهم وتطلعاتهم إلا بالقدر الذي يلبي حاجيات المطالبين دون مزايدات أو وعود سريالية غير قابلة للتحقيق على أرض الواقع، وهذه السياسة في مجملها تضمن التعايش والاستمرار.
السياسة فن المستحيل كما يقال، وهذا النوع غالبا ما ينتهي بالفشل وإثارة الفوضى كونها تتبنى مشروعا مستحيلا بالنظر للمعايير الثقافية والاقتصادية والاجتماعية الحاضنة لهذه السياسة، وسرعان ما تصطدم مغامرتها بحجر الواقع، فهي غالبا لا تقوم على استراتيجيات واضحة ولا تتعامل مع الحاضر برؤية جادة، ولا تعطي اعتبارا للظروف والقوانين الجاري بها العمل ولا ما ينتظرها من تحديات في المستقبل وهل هي قادرة بما تملكه من مُقدَّرات وإمكانيات أن تتجاوزها.
 والسياسة لعبة المصالح لا تؤمن بالمبادئ والمُثُل، وقد وصفها البعض بلعبة المصالح القذرة والمتناقضات الغريبة إذ يمكن لأي طرف في اللعبة أي يكون صديقا لك صباحا ثم يُصبح عدوا شرسا في المساء إذا اقترن اختياره بمصلحته العليا، وهي السياسة السائدة في العالم اليوم تتحكم فيها التوازنات الدولية وصراعات الدول الكبرى.
السياسة أيضا فن التكرار بامتياز، خصوصا حينما يتعلق الأمر بمحطة ديمقراطية وازنة كالانتخابات، فهي لا تبرح أن تعيد نفس الشعارات ونفس الوعود ولا تغير من برامجها النمطية إلا العناوين بل ويكون أغلبها فاقدا للمفردات الرنانة والمقاصد السامية التي من شأنها أن تؤثر أكثر في المتلقي وتجلب أكبر عدد من المؤيدين.
محاربة البطالة، محاربة الرشوة، إصلاح التعليم، تأهيل الصحة، تطوير الاقتصاد، تشجيع المقاولات، الأسطوانة المتكررة المشروخة التي نسمعها في كل حملة انتخابية حتى حفظناها عن ظهر قلب، نريد وصفة سحرية بكل ما تحمله الكلمة من معنى تخرجنا من حالة الضعف الاقتصادي والتعليمي الذي نعيشه، نريد مخططات مدروسة بدقة وعناية وليست برامج فقيرة وليدة الليلة الانتخابية، نريد أفكار جديدة ومسؤولة تأتي بحلول حقيقية وعاجلة لمعضلاتنا الاقتصادية العربية، وليس فقط تناوب أدوار على الحقائب الوزارية، نريد تجاوز المقاربات الروتينية الميتة العاجزة على إنقاذ الوضعيات الراهنة والبدء بإصلاحات جوهرية عميقة، نريد الحس العملي المتفاني الذي يجعل مصلحة البلاد والعباد سامية على المصلحة الشخصية والحزبية، نريد استراتيجيات صادقة وجريئة مُحددة في الزمان والمكان والنتيجة حتى ولو اضطُررنا للتنازل عن بعض مكتسباتنا وتقديم التضحيات في سبيل إنجاحها، نريد صراحة معجزات تسطرها سواعد نقية وفئات شبابية متحمسة وطموحة تؤمن بما نزخر به من ثروات غنية، نريد طاولة مستديرة تجمع كل ممثلي المجتمع المدني وكل  الطبقات الاجتماعية لنناقش عن قرب مختلف المشاكل والعقبات بحياد وعقلانية ولنسطر على المدى المتوسط أو البعيد آلية واضحة يلتزم بها كل الأطراف السياسيين الفاعلين بنية صادقة لخدمة مشروع وطني متكامل ومحسوم النتائج.
هذا ما نريده على أرض الواقع ولا نريد سياسة التكرار. 


أمريكا.. هي نفسها


تنتقلُ السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية بسلاسةٍ وعفوية وفي غُضون سُوَيْعَات معدودة، حيث تمرُّ عملية التصويت في هدوءٍ تام وبطريقة رقمية غاية في الأناقة والتحضر، ويهنئُ المنافسُ المُقرُّ بخَسارته زميلَه الفائزَ بكرسي الرئاسة متمنياً له حظاً وافراً في مسيرته المقبلة، ثم يستقبلُ الرئيسُ المنتهيةُ ولايته الرئيسَ الجديدَ المُنتخب في شرفةِ البيتِ الأبيض، وسرعان ما يجمعُ أغْراضَه ويحزِمُ أمتعته قبل أن ينصرفَ بهدوءٍ وقناعةٍ متمنيا للوافدِ الجديد كل التألق والنجاح، هكذا تتم عملية الانتقال السلمي للسلطة في بلدٍ يُعتبر الأقوى عالميا دون إراقة قطرة دمٍ واحدة ودون الدخول في غِمار حروبٍ طاحنةٍ مُدمرة تأتي على الأخضرِ واليابس، قبل أن يتمخض عنها بعد ولادةٍ قيصرية عسيرة رئيس بمقاييس خاصة لا يجدُ أمامه سوى الأشباح ليحكمهُم، هذا الانسيابُ المتقنُ في تداول السلطة هو ما يوضح حجم المسؤولية الملقاة على عاتق الرئيس الجديد ومدى الحمل الكبير الموصول بضرورة تحقيق كل أو غالبية مطالب المجتمع الأمريكي دون تردّد، فهم لا ينظرون إلى كرسي الرئاسة مثلما ينظر العربُ له، ولا يسْعَوْن إلى الحكم كما يسعى له العربُ لتكريس نفوذهم وبسط سيطرتهم بشكلٍ مطلق.
إن دخولَ البيت الأبيض رمز الحكم والهيمنة الأمريكية هو بمثابةِ بداية لطريقٍ طويلةٍ وليس نهاية المطاف كما هو الحال عند ممثلينا، والتربع على عرش أكبر دولة في العالم ليس بالأمر الهيّن بل هو تحدي كبير أمام ملفات شائكة، وسياسات خارجية معقدة، واقتصاد عالمي عملاق، كل هذا يحتاج لعمل شاق ودائم وليس كما هو حال دولنا العربية حين تُختزلُ مدة العمل الجاد أو بالأحرى إبداءَ نية العمل فقط من بداية وقت الحملات الانتخابية إلى يوم إعلانِ الفوز بسُدَّة الحكم، وبعدها كل شيءٍ ينتهي وكل فردٍ يختفي.


ماذا سيفعلُ ترامب؟ ما هي سياسته الخارجية؟ كيف سيكون تعامُله مع جيرانهِ خصومهِ حلفائه؟  كل هذه الأسئلة هراءٌ ومضيعةٌ للوقت لأن الجوابَ بكل بساطةٍ أن أمريكا ستوجدُ حيث تكون مصلحتُها بالضبط، فإن كانت مصلحتها في الحروب أشعلتها، وإن كانت في السلام أقامته، وإن كان العالم العربي مندهشا من فوز ترامب فإن منافسته العنيدة هيلاري كلنتون نفسها لم تتأثر بالأمر بل اتصلت به شخصيا وهنأته بكل بساطة وتلقائية، وإن كانت مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية في بقاء بشار الأسد رئيسا لسوريا استماتتْ في الدفاع عنه ودعمتهُ بكل المكائد، وإن وجدت مصلحتها في زواله لن تتردد لحظة واحدة في هدم سوريا فوق رأسه، ومن ينتظر اصطداماً بين الرئيس الجديد وروسيا فهو واهم، لأن مصلحتا القوتين تلتقيان عند الغنائم، فلا يُعقلُ أن يتخذ القويُّ الضعيفَ حليفاً له على حساب حليف قوي، هذه لعبة السياسة التي توهم بعض الحالمين من كوكب آخر بأوهام لن تتحقق سوى في مخيلاتهم المحدودة. ومن كان ينتظرُ حل الدّولتين في ملف القضية الفلسطينية إن فازت هيلاري كلنتون فهو لم يستوعب جيدا السياسة الأمريكية التي تتحكم فيها اللوبيات الصهيونية وتغيب -خصوصا في هذه القضية بالذات- شخصية الرئيس الأمريكي لتنصاع لإملاءات الساسة اليهود المتحكمين في ركائز الاقتصاد الأمريكي، ومن كانت تُزعجهُ تصريحات الرئيس الحالي إبّان حملاته الانتخابية السالفة خصوصا تجاه الأمة العربية والإسلامية، فلا يقلق، ولينتظر كلاماً معسولا وعبارات الغَزَل في حب دول المشرق والمغرب العربي، أو بالأحرى في عشق آبار النفط وحقول الغاز الطبيعي الجذابة في مقابل الحماية الشفافة من بعبع الإرهاب وأقنعة الهالوين الإيرانية المخيفة، من كان ينتظر شيئا من أمريكا فلا حاجةَ له في أن يَبذل جهدَه وطاقتَه في الانتظار، فلولا كرة القدم لما عُرفنا على الخريطة، وما دُمنا لا نمثل مصلحةً حتى لأنفسنا ولا نبيض ذهبا ولا نُفرّخ فضة، فنحن قابعون في خانة المنسيين إلى ما شاء الله.

الإنقلابيـون الرحـماء



بكل ترقب
وحذر تابع العالم بأسره الأحداث المتسارعة التي ألقت بظلالها على الساحة التركية بداية من لحظة الإعلان عن الإنقلاب العسكري ضد أردوغان نهاية بفشله٬ وشكل هذا الحدث بحيثياته وتداعياته ولادة عهد جديد لمفهوم الديمقراطية وسيادة سلطة الشعب٬ وأماطت اللثام عن فاعل جوهري بات اليوم خارج حسابات القادة السياسيين وخططهم، وطرفا ثانويا في اللعبة السياسية برمتها.
إنه الشعب التركي الأبي الذي خرج بكل أطيافه وطبقاته لشوارع اسطنبول من أجل الدفاع عن الشرعية بصدور عارية في موقف بطولي لم يتوقعه الخبراء العسكريون ولا المحللون الإستراتيجيون وهم يعلقون بعضهم بحياد خجول وبعضهم بشماتة على أحداث الإنقلاب العسكري، لم يخطر على بال أحد أن الشعب التركي بكل فئاته المدنية والعسكرية هو من سيقف سدا منيعا في وجه الإنقلاب العسكري وحجر عثرة في تقدم مخطط الانقلابيين نحو تحويل تركيا إلى بؤرة عنف شأنها شأن سوريا والعراق، وأبى إلا أن يبين عن وعي سياسي واجتماعي رفيع، وعن تلاحم وثيق بين قائد منتخب ومؤيديه يكاد ينعدم حتى في الدول الديمقراطية الكبرى، مواصلا شق طريقه بخطى ثابتة نحو التقدم والازدهار رغم الأحقاد الأوربية والعربية التي تطارده سرا وعلانية.  هذا وراح شرذمة من الإعلاميين العرب على القنوات المشبوهة يطبلون ويزمرون فرحا بسقوط أردغان قبل التأكد من تحقق ذلك بشكل رسمي في تحد سافر لأبسط معايير المهنية والمصداقية.
فإن كان وعي الشارع التركي وفطنته السياسية قد ألهمت الملايين عبر العالم وزحزحت كراسي كانت قد أبرمت قطيعة أبدية مع الديمقراطية، فإن الأمر كما يبدو قد انعكس بدوره على  المؤسسة العسكرية التركية التي قادت الإنقلاب العسكري وانصاعت في الأخير للإرادة الشعبية المنحازة لرئيسها بخيار الصناديق، وبالتالي أبانت هي الأخرى عن وعي سياسي قل نظيره. كان الانقلاب العسكري قاب قوسين أو أدنى من الاستيلاء على مقاليد الحكم٬ إلا أنه رضخ في آخر لحظة وطأطأ رأسه احتراما للإرادة الشعبية ولم يقاوم في سبيل إنجاح مشروعه الذي خطط له كما أراد وبمساندة خارجية دون أدنى شك، كان بإمكانه إشعال البلاد واستعمال القوة المفرطة ومجابهة الجماهير بالرصاص الحي وإرهابهم لإيقاع أكبر عدد من الضحايا وضرب طوق محكم على المؤسسات الحيوية لفرض سيطرته على كل تراب تركيا وإخراس الأفواه المعارضة، كان خيارا واردا بشدة غير أن الأمور اتجهت في منحى مغاير تماما بعد أن بثت وسائل الإعلام الدولية صور الجنود وقادة الإنقلاب العسكري وهم يسلمون أسلحتهم وأنفسهم بكل هدوء وثبات دون سفكٍ للدماء أو حصد مزيد من الأرواح.
إن التحام وعي الشارع التركي بضمير المؤسسة العسكرية التركية المنقلبة على الشرعية هو الذي جنب تركيا حربا أهلية طاحنة، ومواجهات دامية ربما كانت ستستمر لسنوات طويلة، وجر البلاد لدوامة من العنف والعنف المضاد بين الشرعية المؤيَدة من الشريحة العريضة للمجتمع والانقلابيين المدعومين من نظرائهم في دول أخرى، في إعادة للسيناريو السوري والمصري حين خرجت الدبابات السورية المدرعة وداست إرادة الشعب في الحرية والديمقراطية فمزقت الجسد السوري أشلاء بطريقة جعلته من المستحيل أن يلتئم مرة أخرى٬ وحين طُعنت الديمقراطية بخنجر الغدر من العسكر المصري الذي ضرب عرض الحائط اختيار الشعب  في تقرير مصيره السياسي وانقلب على المؤسسات المنتخبة باستعمال القوة المبالغ فيها قضى بسببها المئات من الضحايا بشكل فضيع.
لقد كان تقدير النتائج حاضرا في إدراك المؤسسة العسكرية التركية حين تفادت إعادة البلاد للعصور الوسطى مع قدرتها على ذلك وسط تحريض ومساندة أطراف خارجية وازنة لها بكل الوسائل الممكنة،  وتنازلت عن مخططها رحمة بالأتراك بني جلدتهم رغم فداحة الثمن وضبابية المآل، مما يؤكد على أن التجربة الديمقراطية التركية ما زالت بسلام بل وهي في طريقها إلى  أن تصبح نموذجا عالميا يحتذى به.



قائمة المدونات الإلكترونية