الأحد، 28 يناير 2018

الإعلام المصري في الميزان‎



في الوقت الذي كان من المنتظر على الإعلام العربي أن يرقى بمنتوجه الإعلامي في ظل منافسة شرسة من الأوساط الدولية من جهة، وانفتاح العقل العربي على واجهة الرأي والرأي الآخر من جهة أخرى، أبى هذا الإعلام إلا أن يتمادى في سقوطه المدوّي من قممٍ شاهقة شُيّدت على أسسٍ من الكذب والزور وبيع الوهم وتغيير الأقنعة، فكان الإعلام المصري رائد هذه المهزلة والمتربّع على عرش التفاهة والضحك على الذقون، وأنا لا أفهمُ كيف يمتلك هؤلاء الإعلاميّون المصريون وجوهاً يظهرون بها أمام الملإ لا تملكُ ذرّةً واحدة من كرامة أوعزّة نفس، فما من حقيقةٍ واضحة وضوح الشمس في كبد السماء إلا طمسوها وأخفوها وأظهروا للناس نقيضها دون خجلٍ ولا ضمير، يَظهرون في الليل كخفافيش الظلام يُدافعون عن بهتانٍ باستماتةٍ بالغة مع كثير من الصداع والصراخ، وإذا في النهار ينقلبون رأساً على عقب فيُردّدون عكس ما جاءوا به في جُنحِ الليل ليُدحضوه ويُنكروه، وباتتْ هذه السمة طاغية في الإعلام المصري حتى سقطَ من أعين الناس سقطةً مدوّية، وأصبح ما تبقى من مُؤيديه إمّا  من المجانين أو المرضى النفسيّين، أو من الذين يَجدون فيما يُخرّف به هؤلاء مصلحة لهم، فهجرهم القاصي والدّاني وصار مُحبّو التهريج يلجؤون إلى قنواتهم من حينٍ لآخر بقصد القهقهةِ على ما يشاهدونه من "برامج" سخيفة يُهرطق بها على الناس من يُسمّون أنفسهم صحافيين وهُم من الإسم براء.

هذا النّفاق اللامسبوق لو كُتب له أن رُشّح لنَيْل جائزة عالمية لحصدَها الإعلاميون المصريون عن جدارةٍ واستحقاق، بل ووصلت تفاهتهم إلى درجة أن يَقبلوا على أنفسهم لعبَ دور المُطبّلين لجهاتٍ معينة، يُنفّذون بالحرف الواحد ما يُملى عليهم بالتلفون من أقبية المخابرات وهم أذلاّء صغار، ضاربين عرض الحائط رسالة الإعلام الراقية، ومتمردين على كل قيمها وأخلاقياتها المتعارف عليها دوليّا وإنسانيا.

هذا السقوط المدوّي للإعلام المصري والحالة المتضعضعة التي وصل إليها فاق كل السقطات السابقة، فضاعتْ مصداقية المعلومة بعد أن صارتْ سلعةً بيد رجال الأعمال الأثرياء يعرضونها في أيّ قالبٍ شاءوا، كيف لا وقد استحوذوا -فيما يشبه موضة- على كل القنوات الفضائية المصرية وحولوها إلى "المتحدث الرسمي" لتُرّهاتهم، بل وتضاعف النّفاق والمكر والخداع أضعافاً مضاعفة، يُظهرون للناس عكس ما يُبطنون، ولا يتوقفون عن إشعال الفِتن والمحن بألسنتهم السليطة ومهاجمة دول عربية مستقرّة يرون في سقوطها وبلبلتها منفعةً لهم وتقارباً لهم من إسرائيل وأمريكا.

فلا تستطيع أن تثبتَ على قناة من قنواتهم لحظةً واحدة حتى ينتابك الضيق والاشمئزاز والنّفور، بل لا تصدق أذناك ما تسمعانه من كذبٍ بواحٍ وهُراءٍ صراح وتلفيقات مجانية دون دليل يُذكر، واتّهامات باطلة لا أساس لها من الصحة،  يخدمون بذلك أجندة تُحاك وتُحرر في مكاتب رؤسائهم ومسيّريهم ولا يجدون غضاضةً في تغيير جلدتهم بمجرّد أن يستقبلوا مكالمةً هاتفية تأمرهم باتخاذ مواقف معينة، ومهاجمة جهاتٍ ودولٍ باسمها، فيُطلقون العنانَ لألسنتهم بالشتم والسباب، دون مراعاةٍ منهم لحُرمة البيوت واحترام مكانة المشاهد، ولن ننسى الهجمة الهوجاء التي شنّها الإعلاميّون المصريون على الشعب الجزائري بعد مقابلة أم درمان الفاصلة، وكيف وصفوا الشهداء بأحطّ الأوصاف، وقذفوا الجزائر بكلماتٍ تستحي الأذن من سماعها، ضاربين عرض الحائط كل أواصر الأخوةِ والمحبّة بين الشعبين الشقيقين، ناهيك عن المتاجرة في قضايا الأمة الإسلامية والعربية وعلى رأسها القضية الفلسطينية، فتراهم -سبحان الله- تارةً يجلدون ظهرها بكلامٍ قاس جارح لا يردّده حتى زعماء الصهيونية، وتارةً يلعبون دور الحَمل الوديع الحنون فيُقرّبون كما يزعمون وجهات النظر بين الفصائل الفلسطينية، وهم يحفرون لها الخنادق صباح مساء، ويدبّرون لها المكائد وينسقون مع إسرائيل في الخفاء، حتى سقط حُلم إقامة الدولة الفلسطينية من الوجود، فتلقوا بذلك الإشادات والتبريكات والوعود الكاذبة من الأمريكان وشيئا من فتات الخبز.

هو نفاقٌ فاق كل التصورات، تخطى كل الخطوط الحمراء، تعدى كل الاعتبارات والحواجز، نفاقٌ بهذا الشكل لن تجده سوى في البرامج السياسية المصرية، وليس في مكان آخرٍ على الإطلاق.

وتجدُ جلّهم يسكنون القنوات الفضائية جاثمين على قلبك ساعات طويلة، في برامج مملّة مضلّلة مسيّسة من ألفها إلى يائها، يتحدثون في كل شيء، يفهمون في كل مجال، ينبشون في كل مكان، وكأنهم فلاسفة عصرهم في السياسة والاقتصاد، وإذا بنفس الوجوه تراهم على رأس برامج فاضحة يستقبلون فيها راقصاتٍ عارياتٍ مائلاتٍ مُمِيلات، فيكونون بذلك قد جمعوا بين الفن القذر والسياسة المتعفّنة، وهما لا يجتمعان إلا في مصر.

مثل هؤلاء لا يصلح معهم سوى سياسة القمع وتكميم الأفواه والضرب بيد من حديد، فلا يُجابهون ذلك إلا بمزيدٍ من التذلّل والانصياع والابتسامة الصفراء، وهم لا يصلحون فعلا إلا لهذه المعاملة التي تجبرهم -رغما عن أنفهم- على تأييد الظالم والشماتة في المظلوم علانيةً دون خجلٍ ولا عفّة، مقابل بعض الجنيهات، وكلنا يتذكر يوم كانت مساحة التعبير في عصر مرسي  فسيحةً بحجم السماء، فكانت تُفتح القنوات على سبّ الرئيس وتُغلق على ذلك، بل كانوا السبب المباشر في الانقلاب عليه بعد أن روّجوا للأكاذيب وأظهروا العسكر وكأنه المنقذ المخلص لمصر من كل معضلاتها، وصاحب العصا السحرية التي ستصنع المعجزات وتحقّق النهضة الشاملة للبلد.

لا تنتظر من هؤلاء أن يتفوهوا بكلمة واحدة في حقّ زملائهم الصحفيين المُحتجزين في السجون دون تهمة ولا ذنب، وكأنهم لا تجمعهم بهم صلة الصحافة وزمالة العمل، وقبل هذا وذاك مبادئ الإنسانية وضمير المهنة، لا تنتظر من هؤلاء أكثر من تنويم الشعب المصري وإلهائه وتوجيهه وفق اتجاه مخطط له مسبقا، وتغطية الواقع بستار الوهم وتصويره بألوان وردية، في حين أن المعاناة في مصر العسكر تكاد تتكلّم مفصحةً عن معاناتها.

متى نملكُ قاعدةً إعلامية تقف على أُسسٍ متينةٍ من التجرّد والموضوعية، الرأي والرأي الآخر، متى يكون إعلامنا العربي منزّهاً عن الخوض في براثن السياسة بعيداً عن خدمة برامج وأجندات داخلية وخارجية، متى يكون إعلامنا مُوجهاً صوب خدمة الإنسان العربي والارتقاء به في شتى المجالات وليس مغناطيساً يجذب إليه السذّج من المتابعين الفاقدين للعقل والوعي.. وما أكثرهم.

الثلاثاء، 16 يناير 2018

كم تبقى من قصة؟


من منّا لا ينظر إلى الحياة كقصةٍ طويلة متعاقبة الأحداث، متشابكة الوقائع، تبدأ حلقاتها من أوّل يوم جئنا فيه إلى هذا العالم، من اللحظة الأولى التي أطلقنا فيها العنان  لصرخةٍ مدويةٍ ورئاتنا تتنفس هواءها الملوّث، إلى آخر حلقة من حلقاتها
الطويلة نحمل بعدها أمتعتَنا وشرائطَ ذكرياتنا لنُغادر الدنيا بلا عودة.
وقد تبدو الحياة كسيْلٍ من قصصٍ متعاقبة، تنسجم فيما بينها تارة وتختلف تارة أخرى، تطول حيناً وتتعقّد مُخرجاتها، ثم تلينُ فجأة دون عناءٍ منّا، تتعدّد فيها الأحداث والشخوص فمنهم من يُتقن دورَه على أكمل وجه، فتحسُّ في تمثيله وكأنّه حقيقي محترف، ومنهم من يُفتضحُ أمرُه مع أوّل محاولة له لتقمّص شخصيةٍ من الشخصيات، أو دورٍ من الأدوار،  ظانّا منه أنه متفرّد في عمله سائرٌ في مهمته بنجاح، لكنه لا يملكُ الأدوات الضرورية لإتقان مهنة التمثيل بأيّ حال من الأحوال، يتناسى المسكين أن التمثيل حرفة كل واحد منا وليس حكراً على أحد.
وتتعدّد الأمكنة في حياتنا بتعدّد قِصصها ومُنعطفاتها، فيضيق الفضاء في بداية العمر فلا يتعدى البيت والمدرسة وحُضن العائلة، ثم سرعان ما تتوزّع رقعة الأحداث وتتسع دائرة الحركة مع تغيّر مفهوم الحرية والاعتماد على النفس، فتَرى نفسك مقتحماً لبيئات جديدة، ومنعرجاتٍ عديدة، تُصقلُ فيها الشخصية وتتنامى المسؤولية تجاه المتغيّرات، وقد تجدُ نفسكَ ملزماً على السفر بحثاً عن فرصِ حياة أفضل، وغالباً ما يكون السفر -أو الخروج من البيت- في حياة الإنسان خصوصا في الدول العربية قراراً مفروضا تمليه الظروف الصعبة، بعد أن تُغلقَ أبواب العيش في مسرح الولادة الذي شهدَ يوم مجيئِكَ إلى الدنيا، لكنّه تنكَّر لك وترككَ إلى الأيّام كيْ تفعل بكَ ما تشاء، ليَستقبلَ المسرحُ قادماً جديداً تزجُّ به الأقدارُ في الحياة كسابقيه، وبعد السفر تتغير الحياة وتلتقي بأشخاص كُثر، لا يمتّون بصلة إلى أولئك الذين عشتَ بينهم أولى سنوات عُمرك، رغم أنهم جميعا آدميّون وآدم من تراب، فيتغيّر نمطُ التمثيل، وتظهرُ أمامَكَ إبداعاتٌ جديدة، وقدراتٌ هائلة، وتقنيات مبهرة كنتَ تجهلُ وُجودها أو بالأحرى لا تصدقه، وحتى تُواكب هذه المستجدّات وتنسجم مع قصتك الجديدة، عليك أن تُعيد كتابة سيناريوهاتٍ كنتَ تعتقدُ من قبلُ أنها ثوابتٌ لا تُمسُّ ولا تتغيَّر، تُسلّط الإضاءةَ على جوانب مظلمة في شخصيتك، تُغيّر نبراتِ صوتك في مواضع محددة وتعيد صياغة بعض المواقف والاندفاعات التي أساءت لمشاهد فارقة في حياتك، لكنَّك كثيراً ما تُصادف في قصّتك هذه أشخاصاً يلعبون أدواراً مُحيّرة غريبة، يُنغّصون بها على محاولة إتقانِك للدّور المَنوط بك، حينها ستبدأُ عُقدة القصة تنعقدُ  أكثرَ فأكثر، لتَفرضَ عليك العديد من التضحيات والتنازلات، فيُخيَّل إليك أنَّ الأدوار التي تُشاركك القصة عبارة عن أشباح متربصين، وأعداء خطرين، يدفعونك حتماً إلى زيادة مستوى الحذر، وبالتالي سيقلُّ التركيز وتنخفضُ درجة الإتقان والإبداع، وتدخل أنتَ في حالةٍ من الاكتئاب والضّجر.
لا تقف الأمور عند هذا الحدّ، فالقِصصُ لم تنتهِ بعد، والسّتار لم يُسدل، والمَشاهد لا تبرح تتوالى، فقد تخرج من قصتك  هذه بأقل الخسائر،  لتدخلَ مقدمة لقصة أكثر تعقيدا من سابقيها، عليكَ أن تكون قد تسلّحتَ بعملية تقييمٍ شاملةٍ، تحذفُ فيها كلّ المشاهد الفاشلة المتعثّرة، وكل اللقطات العابرة التافهة، وتُعيد قراءةَ سيناريوهاتك من جديدٍ برؤية مُغايرة وتجربةٍ صارتْ كفيلةً بأن تعلّمكَ أخطاءك، وتُنبّهكَ لعيوبك في الحركة، في الاستيعاب، في الإصغاء في ردّة الفعل، في نبرة الصوت، في تعاملك مع كل مشهدٍ مررتَ به من قبل.
قصةٌ قد تصدمكَ بمستوى حِبكتها، قد تنعدمُ في مشاهدها صور الرحمة والوفاء والإنصاف والعطاء والحظّ والإحساس بالآخر، عكس قصتك الأولى المليئة بالحب والدّفء والحنان، وقد تبكي فيها بمرارة أو تضحك ضحكا على نفسك متعجبا من حظّك العاثر، لكنْ عليك أن تتماسكَ فهذه مُجرد قصة تمر بها، قد تبدأ بما لا تنتظرهُ فينطفئ الضوءُ مثلاً، وتتيهُ الأفكار من ذِهنك، ويضحكُ عليك الحاضرون والمحيطون بك، وقد تنتهي بما يروقُ لك، فتصل مبتغاكَ وتنالُ التّصفيق الحار من الجميع لتنسى كل ما مرّ بك، كن صبوراً فكاتب القصة لا يريد سوى الإنسان الصّبور الجَلْد الذي يُتقن كلّ الأدوار، يتحمّل كل الصعاب بنية وعزيمة، لا مجال للركون والاستكانة، لا مجال للرجوع إلى الوراء، عليك أن تتعايش مع قصّتك الجديدة وتوظّف مهاراتك في التمثيل، ما زال ينتظرك الكثير في الحياة.
فقد خرجتَ للتوّ من توتّرِ مرحلة الشباب، وانغمستَ في مشاهد من قصصٍ قديمة بدأتْ كلّها قبل أن تجيء إلى هذا الواقع، وها هي تلحق بك في سنٍّ متقدمة، لتجعل منك أحد أعضاء فرقة التمثيل، لعلّك الآن تُتقنُه أكثر من أي وقتٍ مضى، حظّك جيّد، فقد نجوتَ من الإقصاء، وإلاّ كنتَ اليوم من بين الذين خَرجوا من القصّة أو استسلموا للأدوار التافهة، لا ريبَ أن ظروفاً قاهرةً كانت السبب في ضياعِ فُرصتهم فقد كان السّرد أقوى من طاقاتهم وتحمّلهم، لعلك سئمتَ تقمّص الأدوار، وتقليد الشخوص، وحفظ الحوارات، واستظهارَ النصوص، فالمُمثّل شخص لا يرتاح سوى في طبيعته، ولو كان محتاجاً يُمثّل دورَ الأثرياء، أو واهِناً يُؤدي مشهدَ الفارس المغوار، أو جاهلاً يُتقن شخصية المُثقّف الفيلسوف، فلنْ يجدَ ذاته سوى في لباسه وجلدته، وتلك سنة الله في خلقه.
لعلّك سئمتَ من كل هذا وتسألُ نفسك الآن السؤال الأهم في رحلة الحياة، تُرى كم تبقى من قصّة؟

الخميس، 11 يناير 2018

أسمى من الحب!


لعلّ الحبّ من السمات الإنسانية التي استأثرت بأقلام الكتاب على مرّ العصور، ولعلّه من الأمور التي سال فيها المداد حتى بلغَ أحجامَ البُحور، ومن منّا لم يقرأ في أدبيات العِشق والوجدان وتراث الحبّ القديم، من قصصٍ وعبرٍ وحكاياتٍ تنبض بأسرار الحب العميقة وأساطير التضحية والوفاء.
فالحب كان وما يزال الومضة التي تتلألأ في وحش الظلام، والاستثناء الذي يُغطي بشاعة الإنسان وقساوته، فرغم نعمة المحبّة التي أوجدها الله عزّ وجلّ  ما زلنا نرى الإنسان يكيد لأخيه الإنسان، يُخاصمُه ويُحاربُه، ينكّل به ويتخلّص منه، فما بالنا لو لم يكن للحبّ وجودٌ بيننا على وجه هذه الأرض، حتما ستختفي الحياة، وتكثر الدماء، ويتحول من عليها من فرطِ ظُلمهم وتجبّرهم إلى أشباحٍ شريرة وثعابين مخيفة. وقد استأثرتْ علاقة الرجل والمرأة بحصة الأسد من ينابيع الحب وفيض المَشاعر، فهامَ الشعراء والأدباء في وصفه وتوصيفه، وانغمسَ الفلاسفةُ في أغواره النفسية والروحية، وسرحَ الكتّاب والمفكرون في عالمهِ الفسيح  المطل على شُرَفِ الخيال والإلهام، وهاهم إلى اليومِ ما زالوا على نفس الحال يسرحون، فكتبوا في الحب ما لم يسطروا في غيره، وتركوا من الحروف والعبارات في فنون العشق والهُيام ما تُبنى به الجبال  وتُشيَّد به البروج.
فالحبّ في جوهره هو ذاك الإحساس العميق الفريد المجرّد من كل شيء، ومن كل تابع، كالبدر في سماءِه، يُطلُّ وحيداً متربعاً في ضِياءه، لا ترى في السماء غيرَه ولو كثُرت مصابيحِ النجوم، ولن تظفرَ بسرابه ولو عبرتَ جرياً كل الآفاق والغيوم، ولِكَوْن سحره هذا حيّر الشعراء والأدباء وكل مُكْتو بحرقته ومفتون بلوعته، فهُم غالباً ما يُحيلونه إلى الوفاء والتضحية والطواعية والانجذاب وما إلى ذلك، لكنه إحساسٌ في واقع الحال مختلف تماما عن كل هذا، وهذا ما أكسبه صبغة الإبهار والغموض والوحدة.فكيف نصلُ ضفّة الحب وترسو مركبتُنا على شاطئه؟ وكيف نعيشُ حقيقته ونبلغ ماهيته؟ هذا هو القولُ الذي حارَ العرّافون فيه والعارفون.
الإحساسُ بالآخر، نعم الإحساسُ بالآخر هو الحب نفسه، والعشق عينه، والإنسانية في أبهى تجلياتها، بل هو أسمى من الحب، وأسهبُ من الود، وأصدقُ من الهيام وأنبلُ من هذيان القلب وثورته.
فإذا كان الإنسانُ هو ذاك الحلمُ الكبير الذي يشقُّ طريقه نحو المستقبل بطموحٍ واجتهاد، دون أن يلتفتَ لمن حوله ودون أن يقف وقفةً إنسانيةً يتأمل محيطَه وما فيه، فهذا كائنٌ خابَ وخسِر، إذا كان الإنسان هو ذاك المتلهّف لتحقيق ما عجز عنه غيره، المتعطّش للارتواء بإكسير النجاحِ والتألّق، المُقتفي لكل مصلحةٍ ومنفعة دون أن يمنحَ لإنسانيته حقّها، ولآدميتهِ نصيبها، فهذا كائنٌ ناقصٌ متعجرف، إذا كان الإنسان لا يرى من الدنيا إلاّ ما يملك، ولا يبغي منها إلاّ ما لا يملك، كقائدِ عربةٍ يمشي سريعاً لا يهمّه من على جانبِ الطريق ولو كان جريحاً يُصارع البقاء، أو كهلاً تقطعتْ به الأسباب، أو حاملاً تهم بوضع مولودها، فهذه طبيعةٌ شتّان بينها وبين فِطرتها ومقصودها.
فالحبُّ لا يتجسّد في صورته الأصلية إلاّ إذا تمرّد ضد هذه الأوصاف، وتنزّه من هذه الأمور، وتمخّض على شكل عصارة إنسانية في زمنٍ أصبحت هذه الفضيلة فيه سلعةً نادرة الوجود، فتوقّف الزّمن، وتجرّد الإنسان مما فيه من محنٍ وأهوال، وفرض شخصه على كل التحديات الداخلية والخارجية ومُنازعات الحياة وأحسَّ بالآخر، حينها فقط سيصلُ مرتبة الحب، وسينكشفُ له لغز الجمال فيما يُعبّر عنه في لحظاتٍ إنسانيةٍ فارقة، وليس فيما يَظهر عليه ويُقال فيه، فذاك الذي يُميّز صُراخ الثّكالى وزمهريرَ القنابل، وبكاءَ الأطفال في العَراء البارد، عن إيقاعاتِ الموسيقى الصاخبة، وذاك الذي يئنُّ لأنين اليتامى وتنهيدات الأرامل، وذاك الذي يعيشُ الجوع والظمأ غير آبهٍ بقدرٍ ولا مكانة، لا يهنأ بلقمة حتى يسد بها أفواه الجياع وقد أغناه الله من فضله وكرمه، وذاك الذي يهاجرُ قلبُه وكيانُه مع المغادرين لأوطانهم الفارّين من آلام الحروب والمآسي، وذاك الذي يُحسُّ في نبرات مُخاطبه بلفحاتِ الألم المتوارية خلف الشفاه، وذاك الذي يرى من وراء ابتسامة متذمّرة مقهورة ما تُخفيه الجِباه، وذاك الذي يتقطّعُ إرباً حين يصغى لصرخاتِ الفناءِ من حرقة الأيام وتقلبات الزمن الظالم.

هذه المعاني القويّة هي مِن أجلها وُجد الحب، ليتحرّك في الدّم البشريّ سرُّه ومَعناه، وما دون ذلك من مظاهر مزيفة ومصالح مقيّدة أُريد لها أن تُنسَبَ لمعجمِ الحبّ بهتاناً لتقوم مَقامه، ما هي إلاّ عوارض وانشغالات لا تعدوا أن تكون  ردود أفعال لنزواتٍ عابرة، وتغيرات نفسية فاعلة مؤثرة، وعادات بشرية مُتوارَثة، لا تصل إلى قيمة الحبّ الحقيقية بقدر ما تحوم حوله بخجلٍ وانكسار.

الأربعاء، 3 يناير 2018

كهولة الشباب


ترى ماذا لو كان الغرب يتوفر على شريحة شابة في هرمه السكاني كالتي نمتلكها نحن في دولنا العربية؟ لا شك أنه سيصنع بها المستحيلات، وسيحول الصحاري إلى جنات، والفضاء إلى منتجعات ومنتزهات.
مرحلة الشباب أو مرحلة التطلع إلى المستقبل، أهم فترة يمر بها الإنسان في حياته، تتبلور فيها شخصيته وينمو طموحه وتنتفض حيويته نحو البذل والعطاء، تنساب مشاعره فيها كما تنساب جداول الماء من منبعها، وتنضج قواه العقلية والفكرية كما تنضج الفاكهة في فصلها، فيخيل للفرد أن بمقدوره تحقيق كل شيء يرغب فيه، أو أي حلمٍ يراوده منذ طفولته.
لكن ماذا لو ظلت الفاكهة الناضجة معلقة منسية في أغصانها، حتى يطول عليها الأمد، فتقل جودتها وتتعفن شيئًا فشيئًا، ماذا لو أدرنا ظهورنا لهذه الطاقات الشابة الهائلة، وهذه العزائم المتدفقة، وهذه الإرادات القوية، حتمًا ستأفل ويخفت بريقها يومًا بعد يوم، ماذا لو أهملنا هذه الفئات الفاعلة في شرايين المجتمع، النابضة بالحيوية، المتشبعة بالعزيمة والإصرار على ترك بصمتها في الحياة، حتمًا سيضعف تنفسها، وتهزل رئاتها، وتموت اختناقًا مع الزمن.
لكن في الواقع هل مرحلة الشباب يحكمها سن معينة؟ هل هي فترة زمنية محددة يدخل بعدها الإنسان في دهاليز منعطف مغاير تمامًا في شكل الحياة ومضمونها؟ لا أعتقد.
مرحلة الشباب قد لا ترى النور أبدًا في مجتمعاتنا العربية، فالإنسان فيها لا يحس بنفسه إلا وقد دخل الكهولة من بابها الواسع، وكأنه يصاب بفقدان الذاكرة، يبحث عن شبابه في بحر عمره دون أن يعثر عليه، يتذكر أيامه الخوالي وسنواته الكئيبة فيشمئز منها، ثم غالبًا ما يتجاوز التفكير فيها إلى واقعه القائم المزري عادة. والسبب أن مرحلة الكهولة عندنا تبدأ مبكرًا جدًا، وقد تولد معنا وتستمر فينا كعلة تلازمنا إلى أن نسلم الروح إلى بارئها.
فعندما توصد الأبواب، وينعدم الأمل، ويسود المستقبلَ ضبابٌ دامس، وتتعقد أمور الحياة وقد خلقها الله بسيطة سلسة، وتتشابك الهموم والعوائق إلى حد لا يطاق، فتنتشر الأمراض المزمنة وأكثرها الضغط والقلب، وتذوب الإرادة كما يذوب الثلج، وتتحول القوة التي كانت رأس مال الشاب إلى ضعفٍ واستكانة، ويصبح أسمى ما ينشده الإنسان رغيف البقاء، أليس هذا من عوارض الكهولة ومظاهر الفناء؟
عندما تمشي في الشارع وقد أنهكتكَ نوائب الدهر، فأثقلت حركاتك، وعطلت تفكيرك حتى يراودك الشك ويحاصرك السؤال: هل أنت فعلًا في عمر الثلاثين؟ تشعر بنفسك وكأنك بلغتَ الثمانين، لكنك سرعان ما تحسم الأمور بعملية حسابية بسيطة من عقل مرهق بالمتاعب، فتكون الصدمة حينها أكبر من واقعك.
وأنت على هذا الحال، إذا بحافلة فخمة تقف أمامك، ينزل منها شباب في عمر الزهور، وقد ملأت وجوههم تجاعيد الوقار والهيبة، وابيض شعر رؤوسهم فزادهم جمالًا وأناقة، يلبسون بدلات مريحة وكأنهم في حصتهم الرياضية المعهودة، يدب النشاط في أجسامهم الرشيقة رغم قساوة البرد، ومنهم من يتكئ على عكاز لكنه مصرٌ كل الإصرار على تحمل مشاق السفر والسياحة، فيتصرف وكأنه غير آبه بسنه المتقدمة يتحدى الكهولة وينكرها، ومنهم من يتكئ على رفيقة دربه الطاعنة في السن، الضاحكة المستبشرة، فيمتزج الاثنان في كائنٍ واحدٍ وقد غمرتهما سعادة لا توصف، ومنهم من يحمل في يده خريطة المدينة، وفي ظهره حقيبة صغيرة، وركبتاه عاريتان وكأنه يستعد لخوض مباراة تنس، غير أن تجاعيد ساقيه الواضحة توحي أن الأمر ليس كذلك، فهو يستعيد اليوم مرحلة الشباب التي أوفته حقه كله بعد أن وفاها نصيبها كاملًا غير منقوص، وجماعة هادئة تنزل من الحافلة ببطء، تظهر عليها كل آيات الوقار والرضا، يبدو أنهم أسدوا الكثير لأوطانهم في شبابهم، ووجدوا من ينصت لهم ويتبنى أفكارهم ويثق في قدراتهم وطاقاتهم، فتحتفل بهم أعمارهم ومنجزاتهم اليوم قبل أن يرد جميلهم كائن من كان.
ترى كل هؤلاء شبابًا يافعين، وترى نفسك كهلًا لم ترحمك السنين، يستهويك المشهد وتتمنى لو أنك ولدت في بلادهم على هيأتهم هذه بشيبتهم وتجاعيدهم، تسافر كما يسافرون، تعيش كما يعيشون، تهنأ بحياتك كما يهنؤون، تتقن اللغات كما يتقنون، تحس بكينونتك كما يحسون، فطول العمر لا يقاس بالسنوات؛ بل بتحقيق الأمنيات.
على أمل أن تعيش.

قائمة المدونات الإلكترونية