الأربعاء، 18 يوليو 2018

كوابيس عصر التفاهة




الكابوس 1
وقفتُ أطل على مسرحٍ مهيبٍ  تتمايل فيه الرؤوس كما تتمايل ألسنة الزرع،  صوتٌ مرتفعٌ يكاد يخترق أبواب السماء السبعة، ضجيجٌ وهديرٌ مدمّر لمطرب يغني بلا هوادة، بملابس رثة ممزّقة وشعر منفوش مفتول متفاوت المقاسات، همستُ في أذن صاحبي: ماذا يقول هذا الشخص؟ هل تفهم منه شيئا؟ رد علي وأطرافُه ترتعدُ من هول الموسيقى وكأنَّ به رعشة برد،  ليس المهم ما يقول، المهم ما يفعل.

الكابوس 2                                      
أصابني الملل من كثرة البحث بين القنوات الفضائية عما يمكن مشاهدته في هذا اليوم الممطر البارد، عرّجت على مسرحية مصرية فوجدتها أكثر مللاً مني، توقفت عند فيلم سينمائي من فترة الثمانينات، فوجدته تافهاً مثل عنوانه، واصلتُ التنقل بين القنوات لا أجد فيها غير مشهدٍ واحدٍ متكرّرٍ لرجلٍ يُدير حواراً حاداً بين جمعٍ من الشخصيات المتأنّقة في لباسها، يجلسون حول طاولةٍ تارة تكون مستديرة الشكل وتارة تكون مستطيلة، ثم سرعان ما عُدتُ إلى المسرحية الأولى فلعلّها أصدق مما يُنكّت هؤلاء!

الكابوس 3
تلقّيت على هاتفي دعوة عاجلة لحضور ندوة ثقافية في المركز العربي للإبداع والحوار،  كان عنوانها "واقع العرب في ظل التحديات الراهنة"، فسُررتُ جداً كوني أباشر بحثاً في الموضوع ولم أعثر على مراجع مهمة فوجدتها فرصةً سانحةً للاستفسار عن بعض التساؤلات والتزود بالإحصائيات في هذا الشأن، لكنني لا أعرف مكان المركز، ولم أسمع به من قبل، سألتُ سائق تاكسي عنه فكان مثلي لم يسمع به قط، استعنت بمحرك البحث الحاج غوغل فلم أجد فيه ضالتي، وكان موعد الندوة قد اقترب، ففقدت الأمل في حضورها، وقررت العودة أدراجي، وبينما أنا أترجل دون واجهةٍ محددة، راعني فجأة حجم يافطة كبيرة معلقة على باب إحدى البنايات الضخمة وقد كُتبَ عليها بخطٍّ عربي أصيل "المركز العربي للإبداع والحوار"، تبسّمتُ لغرابة الصدفة، وهممتُ بالدخول إلى المبنى مسرع الخطى متجاوزاً بابا شاهقةً زُيّنت بنقوشٍ ذهبية رفيعة، استوقفني أحد الحراس وأخبرني بأن الندوة قد أشرفت على  نهايتها، وهم الآن في طور قراءة وتوزيع البيان الختامي، أحسست بالإحراج والخيبة وطلبت منه بكل لطف نسخة من البيان، فمدّها لي بعناية دون تردد، ألقيت نظرة عليها وحاولت جاهداً قراءة جميع سطورها، ثم استدرتُ مطأطئ الرأس وغادرتُ المكان والغضب يقهرني.. يا لتفاهة الصدفة!

الكابوس 4
سُررتُ جداً حين أخبرني صديقي بمقابلاتِ توظيفٍ تجريها شركة كبرى للاتصالات، هاتفتهم على الفور واتفقنا على موعد المقابلة، خمسة أيام كافية كي أعد نفسي من جميع الجوانب، فكرتُ في بذلة رسمية أنيقة فتبادر إلى ذهني صديقي صهيب ضابط الإيقاع المشهور، لن يتردد أبداً في منحي إياها، أما الحذاء فسأطلب من إسكافي الحي وهو صديق مقرّب أجود ما يملك من أحذية الزبناء، أو أن يُرتق لي حذائي كالعادة، فقد بتُّ أزوره كل يوم تقريباً حتى لم يجد المسكين ما يلملم فيه من كثرة شروخه، أحتاج ساعة يدوية جذابة، فقد شاهدتُ في التلفاز أن مقابلة التوظيف تحتاج لهندام أنيق أشد الأناقة، قفز إلى ذهني مباشرة صديقي شعيب بائع الهواتف النقالة، لا بد وأن أطلب منه ساعته اليدوية الأنيقة فلن يردّني خائبا، كل شيء مرتّب والملابس ستكون جاهزة بعد أيام معدودة، عليَّ أن أركز أكثر في الاختبار الشفوي وأستعد له، مرّت الأيام بسرعة الصاروخ وحان وقت الذهاب إلى الشركة فموعد المقابلة لم يبق عليه زمنٌ طويل، يا له من أسبوع منهك أظنني لم أعش في حياتي أسبوعاً كاملاً بهذه الحركة، وصلت مقر الشركة بعد بحث طويل فالزحام كان شديداً يومها، دخلت منهكاً إلى مكتب الاستقبال والضغط النفسي والذهني يفعلان في نفسي فعلهما، توجهت إلى سكرتيرة جميلة لم تنتبه لدخولي ولا للباسي ولا لرائحة العطر التي غلبتْ عليها رائحة دخان السيارات.
-صباح الخير، أنا خالد سليمان، سأجري مقابلة توظيف بعد خمسة دقائق من الآن، قلتُ هذا وأنا أحدّق لساعة صديقي الجذابة وأحاول أن أضبط نفسي وأبدوَ أكثر اتّزاناً.
نظرتْ إلي أخيراً من تحت نظارتها ثم عادت تُحدق من جديد في شاشة حاسوبها، ما اسمك؟
-خالد سليمان مهندس اتصالات..
رفعتْ سبابتها دون أن تفوه بكلمة، ثم أخذت تديرها في حركة دائرية عمودية بقُطر عيناي الشاخصتين، فهمت من الحركة أن المقابلة قد أُجّلت ليوم لاحق فسألتها:
-معذرة، هل أجلت المقابلة؟ فردّت ببرودة واضحة: لا.. بل أُلغيت!

الكابوس 5
كنت دائما ما أحرص على حضور الندوات الثقافية خصوصا تلك التي تهتم بالقضية الفلسطينية، فلا يمرّ الشهر إلا وأحضر ندوة أو ندوتين على أقل تقدير، لم أكن أفعل ذلك صراحة حباً في التيار الثقافي -سامحنا الله وإياه- وإنما عشقاً لسيرة فلسطين وعلمها الأسود والأبيض والأحمر والأخضر، وكنت كلما جلست في القاعة أتأمل صور القدس وقبة الصخرة وأشجار الزيتون وسحر الكوفية، لم أكن ألتفت لما يُديرونه بينهم من حوارات ومداخلات، وذات مرة قرّرت أن أدع هذا التصرف، وأن أحضر بكل جوارحي فأتابع ما يدور باهتمام وتركيز، وقد أتفاعل ببعض الأسئلة والملاحظات، فكان انعقاد ندوة شعرية في ذكرى يوم الأرض الفلسطيني، وأخذ كل شاعر يستعد لإلقاء قصيدته، وانطلق الأول يحمل ميكرفوناً في يده ويصرخ بأعلى صوت، كنتُ أتمنى أن أسمع من قصيدته كلمة فلسطين، أو القدس، أو الشهداء، أو الحجارة، أو أي رمزٍ يدل على حضور فلسطين في اعتباره ووجدانه، لكنني لم أسمع سوى كلمات الحب والغرام والغزل والغموض، مع تصفيقات حارة كل كلمة أو كلمتين، فحدّقت إلى علم فلسطين الجريح أمامي، وشردتُ كعادتي..
           
الكابوس 6
شيء ما يبدو من بعيد وأنا أهم بالخروج من البيت قاصداً مقر الصحيفة، شيء يشبه صندوقاً خشبياً حُشر في زاوية بالقرب من مخدعِ هاتفٍ عمومي، شدّني شغفي كالعادة فاقتربتُ ألقي نظرة، وإذا بها مكتبة صغيرة من ثلاثة طوابق، عُلّق على بابها الزجاجي الشفاف عبارة "ضع كتابكَ وخذ كتابا"، أعجبتُ بالفكرة إلى حدّ الدهشة، وبقيت لحظاتٍ في مكاني أتأمل المكتبة قبل أن أهم بفتح الباب  بحثاً عن كتاب آخذه، لم أبال أنني سأدفع مقابله مجلداً قيّماً أحمله في محفظتي لم أكمل قراءته بعد، لكنني ودون تردد قررت أن أضعه في المكتبة وآخذ كتاباً غيره، قلّبت بين الكتب القليلة المشتّتة وإذا بي لا أجد غير كتاب تفسير الأحلام لابن سيرين، انتقلت إلى الرفّ الثاني فلم أجد غير هذا الكتاب، بحثتُ في الرفّ الثالث فلم أعثر إلا عليه، شعرت بحالة نفسية مزرية أقرب إلى الغثيان، ولم ألبث أن أعدت الباب سيرتَها الأولى وأرجعت مجلدي إلى المحفظة وانصرفت متثاقلاً خائباً مشتت البال. في اليوم التالي كانت المكتبة الصغيرة قد اختفت من مكانها ولم يبق من أثرها سوى بعض الأوراق المتناثرة، فقد حل محلها "كارو" لبيع مساحيق التجميل..

الكابوس 7
اندلع حريق مهولٌ في إحدى البنايات المجاورة لمقر الإذاعة والتلفزيون، تعالى الصراخ وازدحم المكان بالناس، تحوّل المبنى إلى كومة من نار ملتهبة يخرج منها الفارّون بين الحياة والموت وسرعان ما يتساقطون تباعاً قرب الباب الخارجي فتحملهم الأيادي المتشابكة دون عناية، حضر رجال الإطفاء بعد تأخير طويل فأخذوا يُجهّزون معدات الإنقاذ بكل أريحية، كنت على مسافة قريبة من الحريق، صُدمت لهول المشاهد التي لم أر مثلها سوى في أفلام السينما، رفعتُ وجهي اتقاءً لحرّ النيران فلمحتُ رجلاً يقف على حافة نافذة يحاول تجنب النار المستعرة في الداخل، يرفع يده اليمنى ويصرخ وكأنه يُلقي قصيدة قومية، اتجهت فوراً إلى رجل إطفاءٍ بجانبي وأنا أُشير له نحو الرجل المحاصر..
نظر إليّ باحتقارٍ دون ردّ فعل منه.. ثم قال: هكذا هم الشعراء.

الكابوس 8
كنت جالساً في المكتب صباحاً حينما دخل المدير باندفاعٍ شديد، ومن وراءه أحد التوابع مطأطئ الرأس، سمعت من العاملين أن وثيقة مهمة فُقدت من مكتبه، وهو الآن في حالة عصبية شديدة يقلب يميناً ويساراً دون جدوى، نهضنا جميعا من مكاتبنا ودخلنا في دوامة من البحث والتنقيب لا نعرف حتى طبيعة هذه الورقة وفحواها، تحولتِ الشركة وكأن عصابة سطو عبثت بمحتوياتها، بدا التوتر واضحاً على وجوهنا فقد يتخذ هذا المجنون قراراً متهوراً كعادته، استسلمنا للتعب والعرق ينصبُّ منا، جلس بعضنا على الأرض وبعضنا استلقى على كرسي المكتب، وبينما نحن نُنصت لصوت شهيقنا وزفيرنا خرج المدير من المكتب ومعه تابعه يحمد الله ويُثني عليه.. وفي يده ورقة حجزٍ لمنتجع صيفي..


الثلاثاء، 10 يوليو 2018

مشروع نهضة (6).. كيف تحميهِ صناعة التسلّح؟


إن سياسة الدولة الداخلية لا شك وأنها محكومة من سياسات خارجية، ولكي تفرضَ الدولة كلمتَها ويُحسب لها ألف حساب لا بدّ وأن تكون سياستها الخارجية قائمة على مرجعية عسكرية رادعة، تُشكّل بها مصدر قوة مؤثرة، وبالتالي تُحقّق السياسة الخارجية أُكلها وهي القدرة على التأثير والمشاركة في صنع القرار، هذا المناخ من فرض هيبة 
الدولة على المستوى الخارجي يجعل من السهل عليها أن تمضي بكل أريحية لتنزيل مشروع النهضة على أرض الواقع بكل مقوماته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

قائمة المدونات الإلكترونية