السبت، 30 سبتمبر 2017

قطر وجنونُ ذوي القربى


حينَ يُصاب الإنسان بداءِ الجنون، فإن الدّاء يتفاقمُ مع مرور الوقت إلى درجة أسوأ، فيُصبح صاحبه غير قادرٍ على ضبط أفعاله وسلوكياته ويُعرّض نفسه والغير للخطر. هذا هو حال دولُ الحِصار، فبعدَ أن أَشعلوا شرارة الأزمة  من الفراغ رغم أن الأمة العربية غارقة أصلا حتى أذنيها في سيل من الأزمات والصراعات ولا تحتاج إلى المزيد منها، هاهم اليوم يديرون ظهورهم لأية مصالحة، رافضين كل محاولة لنبذ الخلاف وإعادة الأمور إلى سياقها الطبيعي، في سلوك غريب لم نعهده من قبل، ويستمر دسّ خنجر الحصار في كبد الأخوّة، ليُقطّع شرايين الأرحام، ويفتكَ بأواصر القرابة والجوار، ويُسيء لروابط الدين وعنفوان العروبة الضاربة في عمق التاريخ والجغرافيا، فكان اختيار هذا التوقيت بالضبط  ضرباً من الجنون، وطعناً من الظهر، وإعلاناً لتطورات خطيرة على المدى القريب.
وانتقل الهجوم إلى ميادين مسالمة كان من المُفترض أن تكون بعيدة كل البعد عن فلَك الأزمة، فأُقحمتِ الرياضة والأغنية ولم يكن من باعثٍ لإقحامهما، وأُهين الصحفيون وطُرد المراسلون وحُبكَ التشويش على القنوات الرياضية في الخَفاء، بل ورُصدتْ ميزانيات ضخمة لتأليفِ وتلحينِ ما يُكرهُ سماعُه من تفاهة عابرة، كان أولى بهذه الأموال أن تسدَّ رمقَ أفواهٍ جائعة٬ وتقي آلاف اللاجئين المسلمين بردَ الشتاء القادم٬ أليس هذا ضربٌ من الجنون؟
وقد حمانا الله سبحانه وتعالى من أمراض العنصرية القاتلة، وجعلنا جميعا تحت راية العروبة والإسلام، إلى أن شاءت الأقدار أن يُمزَّقَ هذا الغطاء الساتر  بأيادي صديقة كان أولى بها أن تحفظه وتصونه من الضياع، غير أن الحسد والبغضاء قد بلغا بهم مَبلغاً لم يكونوا بالغيهِ إلا بغواية المتآمرين، وحقد المتربصين، فسقط الجميع في فخٍّ مُدبَّر٬ لن يسلم من تداعياته طرفٌ من الأطراف.
ثم إنهم اعتقلوا في بلدانهم كل من خرج عن طريق الالتزام٬ وزاغت به أهواؤه  إلى أهوال السياسة، وانحرف به اللسان إلى قَوْل كلماتٍ قد تصبُّ في خندق السياسة أكثر من اتصالها بروافد الدين، فكان ذلك أكبر ذنبٍ اقترفوه لا يُخلّصهم من العقاب مُخلّص، وإذا بهم يُقدِمون على نقيضِ ما أَمروا به٬ ويطلقون العنان لدعاتهم وعلماءهم لقول ما يشتهون في فنون وأدبيات السياسة، فاعْتُبِرت الأولى خروجاً عن مصلحة البلاد، وعُدَّت الثانية توافقاً تامّاً مع توجهاته. أليس هذا ضرب من الجنون؟
ثم أن يصل بك الحال إلى أن تختلس دعوة إلى الله سبحانه وتعالى في ليلةٍ من رمضان، تدعو بها على أشقاءك فيُؤمّنُ عليها الملايين من المصلين في جو مهيب وقد طُهّرت قلوبهم من النّفاق والخوض في أعراض الناس وشؤونهم٬ لكنهم يتفاجؤون بأن خشوعهم هذا قد اختطفه هوى إمام الحرمين، يوجههُ إلى حيث يشاء !
ثم كيف تسيرُ أمريكا ودولُ الحصار جنباً إلى جنبٍ على طريقٍ واحدٍ قَالوا بأنَّه مُعبَّدٌ نحو مرافئ الأمن والسلام والاستقرار، لِيتحوّل الجُنون هنا إلى خَرفٍ فظيعٍ لا يصدقه إنسان، ولعلَّ من قالَ هذا الهراء لم يقرأ يوماً ولم يرَ ما فعلته مرافقتُه إلى السلام من انتهاكاتٍ مروعة في سجن أبو غريب في العراق٬ وفي باكستان وأفغانستان واليمن والصومال، دمّرت أوطاناً عن آخرها واستباحت الأرض والعرض بتخطيطٍ مُحكم، دون سندٍ قانوني ولا عُرفٍ دولي، زميلةُ السلام هذه لم تترك شبراً من الدنيا إلا وأشعلتْ فيه الحروب والفتن، عَلَّمت الإنسانية أحدثَ أساليب القتل وكيف يُمحى البشرُ من وجه الأرض في أقلّ مدّة مُمكنة، راعيةُ السلام هذه هي من تُصدّر الأسلحة الفتّاكة إلى دول العالم كدواءٍ ناجعٍ بعد أن تصيبها عمداً بداء الحرب والفوضى، أيقونةُ السلام هذه هي من أبادت ملايين الهنود الحُمر بأبشعِ الطرق المُتخيَّلة٬ ونفّذت مذابحاً في فيتنام والفلبين، هي من ألقت القنبلة النووية على هيروشيما ونكزاكي فألغت المدينتين من الوجود٬ وقَصفت المدن لاستهداف المدنيين أيام الحرب العالمية الثانية، فارتكبت فظائعاً في حقّهم، هي من تحلبُ دُولَ الحصار من ملاييرها لتَدعم بها إسرائيل وتساعد حكومة ميانمار على إبادة مُسلمي الروهينغا بضوءٍ أخضر منها٬  فهل هذا هو السلام الذي تتحدثون عنه؟
فلو سلّمنا جدلاً أنَّ قطر أخطأت في حقّ جيرانها٬ هل يُعقل أن يُفرض العِقاب قبل تقديم الدليل والبرهان؟ وهل يُعقل أن يَدخل المتهم قفصَ الاتهام فيُحكمَ عليه بأحكامٍ قاسية تُنفَّذُ على أرض الواقع في ليلةٍ ظلماء قبل أن يَعرف هذا المتّهم لائحة التُّهَم الموجَّهة إليه؟ وأين هي قيَمُ التسامحِ والسلام التي طالما كانت شعارا خالداً مُخلّداً ترفعه دولُ الحصار في وجه العالم كله حتى مع مدنسي القدس الشريف !
الظاهرُ أن تغيرات سياسية داخلية كانت السبب الرئيسي في هذا التخبّط الشديد للسياسات الخارجية لدى أطراف الحصار، فآثرت أن تنقل صراعاتها إلى  مسرحٍ أكثر اتساعاً حتى تُخفّف حجم الضغوطات عليها، وتكسب شيئا من التعاطف الدولي لتنتشل معنوياتها من الحضيض٬ وفي انتظار أن تعيَ هذه الدول جسامة أخطاءها وفداحة ما أقدمت عليه وتراجع أوراقها قبل فوات الأوان٬ لا نملكُ سوى أن نثمّن تعامل قطر الذكي مع الأزمة وكيف تديرها بحنكةٍ سياسية كبيرة ومعنويات عالية وخطوات محسوبة تحت أنظار المنتظم الدولي، ستجعلها الرّابح الأكبر في نهاية المَطاف.

الجمعة، 15 سبتمبر 2017

هل تخلّفنا فطري أم مُكتسب؟


ما بالُ الدول الأخرى تتقدم ونحن في رقودٍ لا نبرحُ مكانَنا؟ وما بالُ الأمَم الأخرى يتغيَّر وعيُها وتتبدَّل سياساتها وتتحسن أوضاعها ونحن أصنامٌ لا نتحرّك.
هل تخلّفنا فطري؟ وُلد معنا؟ انتقلَ عبرَ جيناتنا جيلاً بعد جيل؟ أم هو مكتسبٌ تعلّمناه بالمُمارسة من منظومةٍ متخلفة لا تُفرّخ سِوى التخلّف؟ لِنُلقي نظرةً على المجتمع من حولنا ونرى ما مدى صحة هذا الطرح.
من مظاهر التخلف نجدُ الفسادَ بشتى أنواعه، فالفساد حين يتغلغلُ إلى شرايين المجتمع وينخُرهُ من الداخل فيُعشّش في مفاصله ويُسيطر على كل مظاهر الحياة فيه، يُصبح مع مرور الوقت سلوكاً متّفقا عليه مسكوتاً عنه يَدعمه مبدأُ العُرف، وبالتالي فهو يتوارثُ من جيلٍ إلى جيل وينخرطُ ضمن نَسقِ التربية ويذوبُ في تقاليد وعادات المجتمع كما يذوبُ الملحُ في الماء، من هنا نرى أن الفساد الذي هو من أعمدة التخلف بِقدر ما يُعتبر صفة مكتسبة يخلّفها ضعفُ البنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لدول العالم الثالث، بقدر ما يتحوّل تحت ضغط هذه العوامل وغيرها إلى سلوكٍ فطريّ طبيعي يُصاحب الأجيال المتعاقبة في نشأتها وتطوّرها.
 قد يقولُ قائلٌ أن العربَ في أوربا مثلا مُتحضّرون، بحكم بُعدهم عن الفسادِ ومَظاهره، وقُربهم من محيطٍ تَتبلور فيه كل آليات النّزاهة والاستقلالية، وهذا ليس صحيحا، فالعربُ هناك يعيشون تحتَ وطأةِ الانبهار من حضارة الغرب إلى درجة الصّدمة العنيفة، فتفعلُ فيهم تَبعاتها ما تفعل، ويبدُو للوهلة الأولى أنّهم يَسيرون وِفقَ مسارها ويتأَقلمون مع  قوانينها، لكن في واقع الحال هم فقط يُقلّدون، تتحكم فيهم عُقدة تقليد الغرب إلى درجة التبعيّة، وما تحضُّرهم هذا سوى ستار ظاهري وَهن كَبيْتِ العنكبوت، لا يمتُّ للتلقائية والعفوية بصلة. وإلى جانب هذه الفئة، نجد فئة أخرى تُزكي بما تأتيهِ من أفعال فطريةَ تَخلّفنا، فهي تولدُ في أوربا، وأوّلُ نسمة هواءٍ تستنشقها نسمة أوربية، ثم هي تنمو وتنشأُ في أوربا، تدرسُ في مدارسها، وتدخلُ جامعاتها وتتشبّع بقِيَم ومبادئ المجتمع الأوربي حتى النخاع، وحين تعودُ إلى أرض الآباء والأجداد، فهي لا تحترمُ قانون السير، وتنزعجُ من الوقوف أمام ممرّ الراجلين، وتتهوّر في قيادتها تهوراً غريباً، ولا تلتزم الصفّ في الأماكن العمومية ولا تُعطي اعتباراً لأحد في الشارع، فلا يكون بالتالي تخلّفُ هذه الفئة إلا من وراء عاملٍ فطريٍّ غريزي وُلد معها ولازمَها منذ الأيام الأولى لتَشكُّل دعائم شخصيتها، بحيث يظل تخلّفها مكبوتاً طيلة فترة مُكوثها في الخارج إلى أن تحين أول فرصة تكشفُ من خلالها عن وَجهها الأصلي وتنفثُ أدرانَ الشخصية العربية الحقيقية، فيتبلورُ بذلك تخلّفٌ عابرٌ للقارات والمحيطات، يُصبح من الصعب استئصاله كَوْن الأمر يفرضُ أن يَسريَ هذا الاستئصال على أجيالٍ وأجيال متعاقبة حتى يُمحا بعض أثره، وهذا ليس بالأمر الهيّن.
فالتخلف سرطانٌ ينتشر سُمّه فيصيب مجالات إنسانية حيويّة بالشلل، وأينَما وُجد التخلّف حلَّ الخرابُ والفقرُ وتفشّت البطالة والأمراض وما إلى ذلك من العاهاتِ والكوارثِ الاقتصادية والاجتماعية التي لا تُعدُّ ولا تُحصى، قد تكون نَظرتي تشاؤمية كوني أعتقدُ أن تخلّفنا هذا لا دواء له، وأنه من الصعب جدا أن نتجاوزه إلى منعطفٍ جديدٍ نلتقي فيه مع مسار الدول المتقدمة التي تغلّبتْ فيها المبادئ والقِيَم الإنسانية النبيلة على أيّة عوائق أخرى، بل واتّسعت الهوّة حتى بيننا وبين قِيَمنا الإسلامية السمحة، فأصبحتْ تّغرّد هي في واد ونحن في واد آخر تماما، فتخلّفنا وتعاليمنا الإسلامية لن يتوافقا، وليس من المعقول أن يوجد التخلّف حيث يوجد الإسلام، ومن البديهي جدّا أن الإسلام لن تَحتضنهُ بيئةٌ متخلفة.
إن اختلالَ التوازن بين شرائح المجتمع الواحد مع سيادة الشعور بالظلم والانكسار، يُؤدي لا محالة إلى اضمحلال الحسّ بالانتماء، أو الغيرة على المنتمى إليه، فينصرفُ الفرد لخدمة مصالحه الخاصة باعتباره كائناً وحيداً يُصارع من أجل البقاء، ولا يُعير اهتماماً لا لمرجعيته الدينية ولا لمصلحة المجتمع ولا حتى الوطن بشكل عام، نتيجةً لذلك فإنَّ كل الحدود تُلغى وكل قبيحٍ ومَكروهٍ يُؤتى، لأن المجتمع يصبحُ فارغاً تماما من أية قيم إنسانية قد تُشكل الموجه الأساسي لسلوكيات الأفراد، وهذا ما يُنتج اللبنات الأولى لنُشوء التخلّف.
ولعلنا أخطأنا في حقّ أنفسنا وتاريخنا والأجيال القادمة حين كانت انطلاقتُنا بعد تحرّرنا من قَيْد الاستعمار -كما هو حال أغلبِ الدول العربية- انطلاقةً خاطئة، مرتبكة، بعيدة كل البعد عن مشروعٍ نهضوي حقيقيٍّ بعيد المدى، وما علينا اليوم سوى أن نرضخَ لواقعنا هذا وندفعَ ثمن أخطائنا البدائية الأولى، ونجنيَ ثمراتها المُرّة مرارة العلقم بعد أن تجذَّر التخلف في مجتمعاتنا العربية وأصبح جزء لا يتجزأ منا.
لا يمكن أن نطلب من إنسانٍ أن يصنعَ الحضارةَ وهو مفتقر لأبسط مُقوّمات التحضُّر، يجب أولا وقبل كل شيء الاستثمار في الإنسان، نركّزُ على الأجيال الصاعدة، أما إنسانُ هذا العصر فقد غرقَ حتى أُذنيهِ في بحرٍ من اليأس يستحيلُ انتشالُه منه، نربي فيه مَلَكة الإحساس بالآخر، وعبء المسؤولية المُلقاة على عاتقه، يجب أن تُصقل شخصيته بالطريقة التي تكون فيها تحركاتُه محاطة بسياج داخلي من مخافة الله وتأنيبِ الضّمير، انظُروا كيف تقدّمت الدول الأوربية بعد الحرب العالمية الثانية المدمّرة، كفرنسا وهولندا واسبانيا وغيرهم في وقتٍ قياسي بعد أن أعادت بناء قواعد المجتمع الأوربي بناءً جذريّا فطوّرت التعليم والصحة والتربية والوعي الإنساني، وأعطت للمواطن حقه وقيمته وأعادت له ثقته بنفسه، وبالتالي أوجدتْ جيلا يُقدّر أوربا الأم، ولا يتوقّف لحظةً واحدةً عن العطاء.
في المُقابل فإننا نحتاجُ والحالة هذه إن نحنُ أردنا الخروجَ من خندقِ التخلّف والفشل، واستشراف المستقبل بعقليةٍ جديدة يحدُوها الأمل، نحتاجُ فعلا إلى مشروع  نهضةٍ متكامل الأسُس والركائز -من باب التفاؤل لا غير- إلى مشروع مصيري حاسم بما تحمله الكلمة من معنى، يتطلب منا تضحياتٍ جسيمة وقراراتٍ جريئة ورؤية مختلفة للأشياء نابعة من اقتناعٍ داخلي مُحايد، وتحدّ فاصلٍ مُؤمن بقادمٍ من الممكن لنا فيه أن نصنع التغيير السليم على غرار المجتمعات المتحضّرة، وذلك وجوبا على وجه السرعة فالقضية بالغة الخطورة، هي مسألة حياة أو موت قبل أن نتوارى عن الأنظار وننقرضَ من العالم غارقين في مشاكلنا وأزَماتنا القاتلة.

أمل دنقل.. الراهب في محراب الشِّعر


شاعرٌ قومي فريدٌ من نوعه، جوهرة خرجت من نهر النيل واعتلت عرش الشعر في فترة من الفترات الصّعبة، رغم قِصر سنوات حياته التي لم تتجاوز الأربعين إلا بقليل، إلا أنه مرّ خلالها بمحطاتٍ فارقةٍ من تاريخ الأمة العربية، كشف فيها عن مواقفه السياسية بإحساسٍ صادقٍ غيور، وفي قالبٍ شعريّ رفيع المَقام، بعد نَكسة 67 كَتب قصيدَته المشهورة "البكاءُ بين يديْ زرقاء اليمامة"، عبّرَ فيها بحُرقة شديدة عن حُزنه وصَدمته من هزيمة العرب المُذلّة في الحرب ضد إسرائيل، ولأنه يحملُ هُموم الأمة ويُؤرقُه مَصيرُها كما يجبُ على أيّ شاعر أن يكون، فقد رفضَ توقيعَ السادات لاتّفاقيةِ كامب ديفيد عام 1978 وكَتب قصيدته الرافضة للتطبيع " لا تُصالح" ، جاء فيها:
لا تُصالح
ولو منحوك الذّهب
أترى حين أفقأُ عينيك
ثم أثبّت جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
هي أشياء لا تُشترى..
أمل دنقل شاعرُ وطني بامتياز، راهب في محراب الشعر المُقاوم، لم ينصرفْ قيْدَ حياته إلى صنعةٍ أخرى من صنف القصّة أو الرواية، بل اعتَكَفَ بين قصائده وذاب في أبياتها وحُروفها بكل جَوارحه، جَعل حياتَه فداء للشعر، يكتبه بإخْلاصٍ في كل وقت وحين تَعتصِرُ نفسُه بالبَوح بما يختلجُ في صدرهِ من ألمٍ واحتقانٍ لينتشِلَهُ بطريقتهِ الخاصة ويُخرجَه إلى الوجود في صورةٍ فنيةٍ أخاذة، لا يقلُّ جمالُها عن تأثيرها في النّفوس.كان يقول: على الشاعرِ أنْ يأخذ موقفَه في المجتمع، أن يرفضَ الواقعَ بطبيعته لأنه يطمحُ لواقعٍ أفضلَ وأرقى، أن يُحقّق المعادلة الصّعبة وهي أن يجعلَ الواقعَ شعراً والشِّعرَ واقعاً ويعيش على ذلك، وبما أن الواقعَ متخلّف عن الحُلم، فالشاعر يقفُ دائماً مع الحُلم ضدّ الواقع.كان يرفضُ المسمّيات العديدة التي باتتْ تُنسبُ إلى الشعر من قبيل القصيدة السياسية والقصيدة الوطنية وقصيدة المَدح وما إلى ذلك، فاعْتَبرَ الشِّعر في مُجْمله كتلةً واحدة ووحدةً متكاملة تستمدُّ طاقتها من وَحْي الإنسانية بكل تجلّياتها وصُوَرها، تنقلُ  صورةً لإحساسِ الشاعر بنبضِ المُجتمعِ  في لحظةٍ ما، ولأنَّ أباه سمّاه أمل تَيمّناً بحصولِه على الإجازة العالمية، فقد حاولَ بِدَوره أن يزرعَ بُذور الأمل في النّشء الصاعد، وأن ينقلَ معاناتهِ ومشاكلهِ المُتخبّط فيها، أملاً أن تنفرجَ كُربه ويَصلحَ حاله ويشقَّ الطريقَ الصحيحَ نحوَ غَدٍ أفضل، نحو أملٍ أفضل.
كان صوتاً بارزا يتصدّر الموجةَ الثانية لحركة الشعر الجديد، بكلماته الواصلة ومواقفه الثابتة، يُعبّر عنها بلُغةٍ عربية سلسة، وتصويرٍ شعريّ لا مثيل له، فكان واسعَ الخيال، يمتلكُ نظرةً ثاقبةً للأشياء، تنفذُ رسائلُه الرمزيّة بلُيونةٍ إلى أعماقِ ووجدانِ قارئها كما يندسُّ نصلُ السّيف في الغَمَد، مخلفةً وَقْعها في القلوب إلى الأبد.
أن تكون شاعراً يعني أنك مرآة حية تعكسُ ما يجري في المجتمع، والفرقُ بين الشاعر وأي إنسانٍ آخر هو أن الأوّل يسعى دائما إلى وصف الواقع الذي يعيشه الإنسانُ نفسُه، يبحثُ عن سُبُل إسعادهِ ويتطلّعُ إلى حلمٍ مشتركٍ لا ينفَصلُ عن أحلامِ وتطلّعاتِ المُحيطين به، وذلك في قالبٍ فنيٍّ مُتناسقٍ ومُنظّمٍ ومُتدفّقٍ كالماء العذب في مَجراه. فلا يقولُ الشاعر الكلامَ على عواهنه فقيراً من إبداعٍ يُذكر، ولا يبالغُ في الغموض والتّعقيد إلى درجة أن لا يفُكَّ طَلاسمَ شِعره أحدٌ سِواه، بل يمزُج الواقعَ بالخيال والحُلم بالحقيقة في مُركّبٍ مُدرك المقاصدِ مُستوعب الرسائل، ليُخرجَ إلى الوجود بعدَ عمليةِ تشخيصٍ دقيقة تِرياقاً يُريد به إنقاذَ البشرية من سموم العصر، ويبدو أن بعضا من شعراء هذا الزمان إذ يكتبون الشِّعر فهم يَنظمونه لأنفسِهم لا غير، ربّما بدافعِ الخوف من تجاوز الخطوط الحمراء، فيرتكبون جنايةً في حقّ القُرّاء والشِّعر على حدّ سواء إذ هم نشروه إلى العَلن، فأغلب ما يُنشرُ اليوم شعرٌ يكتبُه الشاعر لنفسه، ولا يَفهم مدلولَه أحدٌ سواه، هذا إن كان يحمل بين طيّاته دلالات بالفعل.كان أمل دنقل يرفضُ الاسترزاق من الشعر، كما هو حال شعراء هذا العصر، فأغلبهم يتّجه لمحاولة كتابة كلمات بسيطة تتماشى والنغمة الموسيقية، حتى يسهلَ تحويلها إلى قالبٍ غنائي، لعل الأغنيةَ تُحقّق نجاحا عارما فيصيرون بين ليلةٍ وضحاها من الأثرياء، والأغنيةُ تتطلّبُ بمقاييس الفنّ الجديد تصويرها بتِقنية الفيديو كليب، فأصبحوا بالتالي حاملين لَقبَ شعراء الفيديو كليب عن جدارةٍ واستحقاق ! يكتبُ بعضهم (قصيدةً) أو (قصيدتين) ثم يندثرُون من الوجود بلا عودة.
في أيامه الأخيرة لم ينقطعْ شعرُ أمل دنقل، ولم يجفّ قلمه رغم معاناته المريرة مع المرض، وظلّت أنامله تنسجُ من جميل الشعر وبَديعِه إلى آخر نفَس، ذاك هو الشاعر الحقيقي أصيل المعدن، لا تهزّه الصدماتُ ولا يلتفتُ لنفسه بقدر ما تشغله همومُ المجتمع، فينسى آلامَه وهو يرى أوجاعِ الناس في كل مكان، طُلبَ منه أن يقرأ في برنامج تلفزيوني قصيدة كتبَها عن مُعاناته في المشفى، فرفضَ وفضّل قراءة قصيدة أخرى مبرّراً ذلك بقوله: مَرضي هذا ليس قضية أشغلُ بها أي أحد ! قال الشاعر والناقد المصري عبد المعطي حجازي عن صُموده في مِحنته المرضية، هو صراعٌ بين مُتكافئين، الموتُ والشِّعر، ليخلقَ أمل دنقل إلى الوجودِ متكافئاً ثالثا وهو الذاكرة التي نقشَ اسمَه على صفحتها كرمزٍ خالدٍ من رموز الشِّعر الوطني سيظلُّ مُلهمَ كل الأجيال القادمة.

قائمة المدونات الإلكترونية