الاثنين، 1 أبريل 2019

"دين الفطرة" هل هي رسالة من جون جاك روسو أو من عبد الله العروي؟ عادل اعياشي



"دين الفطرة"، أو "عقيدة قس من جبال السافوا" Profession de foi du   vicaire savoyard  للفيلسوف الفرنسي المزداد في جنيف جون جاك روسو، صدر الكتاب عام 1761، فيما تولى المفكر المغربي عبد الله العروي نقله إلى اللغة العربية، ونشرت الطبعة المترجمة عن المركز الثقافي العربي سنة 2012 في خضم الجدال حول مفهوم العلمانية والدولة المدنية.
يقول العقاد في أحد حواراته بعدما سأله صحفي حول علاقته بالشخصيات التي كانت محور بعض كتاباته، فأشار أنه لا يكتب حول شخصية من الشخصيات إلا إذا أحس بعلاقة خاصة تربطه بها، أو تقارب فكري أو إعجاب أو انجذاب تجاه تجربة وفكر هذه الشخصية، وهذا ما نراه في مؤلفاته عن الخلفاء الراشدين (العبقريات) وعن الصحابة وعن ابن الرومي وغيرهم، وقد يتحقق قول العقاد إذا ما أسقطناه على جماعة المترجمين، فلا يتخيل من مترجم أن يقدم على ترجمة فكر دون أن يكون من المؤيدين لهذا الفكر، أو ربما تربطه به على الأقل علاقة تعاطف وانبهار خفية لا يحبذ أن يقر بها صراحة، وإلا فمن العسير جدا على أي مترجم أن يغامر في ترجمة كتاب لا يجد فيه تلك الرابطة النفسية التي كانت سببا مباشرا دفعه دفعا لتسطير ترجمته.
إذا نظرنا إلى محتوى كتاب جون جاك روسو نجده كتابا فلسفيا بامتياز شأنه شأن باقي الكتب التي تحمل في طياتها  الدفاع عن رأي من  آراء الفلاسفة في عصر التنوير حول الله والمادة والطبيعة والروح وما إلى ذلك، لكن اختيار عبد الله العروي لهذا الكتاب بالضبط لم يكن محض الصدفة، ولم يكن يروم  من خلاله تنوير الفكر العربي بآراء الفلاسفة حول هذه المفاهيم التي طال الجدل حولها دون الوصول إلى نقطة التلاقي وهذه ضريبة الفلسفة، وإنما يبدو أنه يؤسس  عبره بشكل واضح لمفهوم الدولة العلمانية، لكن الخوض في هذه النقطة بالذات محور الكتاب وهي الإعلان الصريح بأن الفرد ليس في حاجة إلى مرجعية دينية وما لهذا القول من حساسية مفرطة في مجتمع مغربي عربي مسلم محافظ، دفع عبد الله العروي إلى محاولة دفع هذا المفهوم الخطير والحاسم في مشروعه العلماني على لسان جون جاك روسو، الذي يتكلم بدوره كما يقال في كتابه هذا بلسان القس في حواره مع الولد، وقد لجأ جون جاك روسو نفسه إلى هذا الأسلوب طبعا خوفا من بطش الكنيسة، وهي نفس الحيلة التي اعتمدها عبد الله العروي في نقله الكتاب إلى العربية وليس ترجمته، لأن الترجمة تقتضي على المترجم تحييد الذات وإبراز المعنى الحرفي للمتن الأصل، بيد أن عبد الله العروي يقول في مقدمته حاولت أن أكون محايدا بمعنى أن الحياد كانت محاولة منه وليس غاية، وهذا ما ألبسه لباس المسؤولية بخصوص علاقة الفرد والمجتمع بالدين تحديدا، ولا يمكن بالتالي إغفال ذاتية عبد الله العروي في محتوى الكتاب.

لا يمكن لمشروع حداثي أن يرسي قواعده دون الرجوع لآراء الفلاسفة والمفكرين، وإذا كان عبد الله العروي قد صرح في كتاباته بعدم استلطافه للمنحى الذي يتبناه الفلاسفة عموما إلا أن الدفاع عن مشروع حداثي قائم بذاته ودفع مفهوم جعل الدين خارج اهتمامات الفرد والمجتمع واعتبار العقل أو الضمير الإنساني المحرك والمتحكم الرئيسي في معايير الخير والشر لدي الإنسان، هو اعتراف صريح ومباشر منه في نقطة خطيرة للغاية وبالغة الحساسية، وإذا كان العروي قد خاض في مسائل الدين من المنظور الشمولي وله آراء عديدة في ذلك، إلا أنه عجز لاعتبارات عدة أن يكون أكثر جرأة في هذه المسألة فيتبناها بشكل شخصي، فلكي تؤسس لمشروع علماني حداثي لا بد وأن يكون موقفك واضحا وحاسما في نقطة تحييد الدين عن اهتمامات الفرد والمجتمع بشكل قاطع وواضح دون غموض أو لبس، وهذا المأزق الذي ربما سقط فيه العروي وأراد أن يتناول هذا الأمر بطريقة أكثر ذكاء حتى لا يحدث بلبلة جدلية بشكل من الإشكال، وقد نلاحظ ثورة عبد الله العروي وبوحه بهذا التوجه من خلال استخدامه في عنوان الكتاب عبارة "دين الفطرة"، بمعنى الدين الذي يتفق عليه الجميع، الدين النابع من الإنسان نفسه وإليه، نتاج عقله وضميره، دون الحاجة للرجوع إلى الرسالات السماوية الرجعية وهذا أساس العلمانية الحديثة.

الأربعاء، 13 مارس 2019

هذه هي شروط ميسي للعب في المغرب!


لو أتيح لنا أن نختار حظنا في الحياة، لاخترنا حظ ميسي، اللاعب الأرجنتيني ونجم برشلونة الاسباني، فما يتمتع به هذا اللاعب من شهرة عابرة للقارات وهيبة تقتحم الآفاق ما يفوق بهما زعماء العالم وعلمائه ومخترعيه ومناضليه.

إذ يتمنى كل زعيم أن يحظى بشعبية ميسي، ويحلم أن يلقى من التصفيق والهتاف حين يخرج إلى الشارع أمام شعبه ربع ما يلقاه ميسي حين يتجلى لمشجعيه، ولو اجتمع مشاهير العالم في زاوية، وتواجد ميسي في الزاوية الأخرى، لوجدت وسائل الإعلام من كل حدب وصوب تهب نحوه كما تهب الأمواج العاتية عل شاطئ البحر، وحتى لو دارت الأيام والتقيت بالنجم الأرجنتيني وجها لوجه، فلن تجده سوى إنسان بسيط ساذج لم يؤت حظه من العلم كما اقتلعته أنت من بين شقوق المعاناة، وربما لا يجيد حتى قراءة الرقم الذي يعبر عن قيمة حسابه البنكي، بينما علمتك أنت قسوة الأيام أن تحمل هم كل شيء، والدنيا حظوظ كما يقول المثل المصري.

هذا اللاعب لا يتحرك إلا ببرنامج، ولا يلعب إلا ببرنامج، ولا يلاقي خصمه إلا بخطة محكمة، ولا يلاعب منتخبا لدولة أخرى وديا إلا بشروط صارمة يوقعها بنفسه، وآخر هذه الشروط ما أصدرته الجامعة الأرجنتينية قبل موعد المباراة الودية التي ستجمعه بالمنتخب المغربي في السادس والعشرين من هذا الشهر من رزمة شروط قاسية على المنتخب المغربي ألزمته بالخضوع إليها إن هو أراد أن يقابل ميسي على أرضية الميدان، وإلا فميسي لن يلعب في المغرب، ولن يكلف نفسه عناء الانتقال لطنجة ولو كانت هذه الأخيرة ستتزين عن بكرة أبيها لتستقبل النجم العالمي المشهور.

هذه الشروط أقل ما يقال عنها أنها مذلة، تجرح مشاعر عشاق كرة القدم بالمغرب وتجعل كرامتهم تحت الحضيض، فما معنى أن يطلب ميسي ألا يقترب منه لاعب أو مشجع أو متفرج، بل ويمنع على لاعبي المنتخب المغربي أن يطلبوا تبادل القميص مع ميسي بعد نهاية المباراة كما يفعل اللاعبون عادة إظهارا للروح الرياضية، والأغرب من هذا أنه اشترط ألا يتدخل ضده المدافعون المغاربة بخشونة، ويتركوه يسرح ويمرح في الملعب كيفما يشاء حتى يتفنن في تسجيل الأهداف، أما السيلفي فحرام مطلق رفقة ميسي، من أي جهة كانت، وعواقب وخيمة تنتظر المخالفين.

كل هذه الشروط المفروضة من ميسي لسواد عيونه كانت مقابل شرط مغربي وحيد، ألا وهو أن يلعب ميسي أكثر من 50 دقيقة ولا يترك الميدان قبلها، فكان الفرق بين شروط ميسي وتنازلات الجامعة المغربية لكرة القدم كالفرق بين السماء والأرض. هذا البرغوث الذي لم يكن ليرتفع من على مستوى الأرض لولا هرمونات النمو يملي على دولة ذات سيادة شروطا مجحفة كي يلاعب على أرضها جلدة منفوخة بالهواء، لكن الخطأ لا يتحمله ميسي بل يتحمله المسؤولون الذين رضوا بالذل والهوان وركضوا وراء لاعب لكرة القدم يقبلون يده وحتى رجله في الخفاء فمن يدري، لا لشيء إلا ليقبل ويتنازل ويتواضع فيلعب ضد منتخب مغربي كان الأولى أن يحظى ولو بجزء يسير من هذا التقدير المبالغ فيه إلى أبعد الحدود.

دعنا من كل هذا، وللنظر إلى المقابل المادي الذي سيدفع مقابل هذا الذل، فالذل اليوم كما تعلمون أصبح يشترى بالأموال الطائلة، وتقدم في سبيله كل التضحيات الجسام، 1.6 مليون دولار، بالتمام والكمال، هو المبلغ الذي سيتقاضاه المنتخب الأرجنتيني لقاء لعبه مع المغرب، يبلغ راتب ميسي منه أكثر من نصفه، يعني أن المغرب سيدفع 600 ألف دولار في حال تغيب ميسي عن الحضور، ويا ليته يغيب حتى لا تضيع المزيد من الملايين في سلة المهملات.

ما شأننا بميسي، وبالمنتخب الأرجنتيني غير الدعاية الخاوية البعيدة كل البعد عن أهداف الرياضة النبيلة، فلنلاعب فريقا آخر، ولندخر كل هذه الملايين في مشاريع أكثر سبقا وأهمية، هذا إن كنا فعلا نفكر بالطريقة التي تخدم مصالح شعوبنا وتتحمل همومهم، لا بالكيفية التي نتاجر بجيوبهم في مثل هذه القرارات الطائشة، لا نريد رؤية ميسي في المغرب، نراه تقريبا كل يوم على الشاشات، فليذهب ويلاعب منتخبا غير المغرب كفرنسا والبرازيل، على الأقل ستجد قائمة شروطه خاوية على عروشها.

الأربعاء، 6 فبراير 2019

"تبّاً للرّواية!".. هل الشِّعر تحت أقدام الرّواية؟


"تبّا للرواية" هو أحد الكتب الصادرة للكاتب السوداني عمرو منيب دهب، وترجمه إلى اللغة الإنجليزية الكاتب والمترجم المغربي يوسف الحراق، يبدو من عنوان الكتاب أنه مثير وجذاب، فالكاتب قد بلغ بكرهه للرواية مبلغا عظيما إلى درجة أن استعمل في حقها كلمة "تبا"، والكتاب هو سلسلة مقالات، ويبدو أن عنوان الكتاب الرئيسي ليس وحده محل الدهشة، فقد عنون الكاتب بعض مقالاته بـ "الروائيون الكذابون"، "الروائي جبان" وما إلى ذلك، فالرواية عند الكاتب هي الكتابة حول ما هو مثير، كالعلاقات الجنسية خارج إطار الشرع، فهذا اللون من الكتابة هدفه استمالة القراء وتحقيق الرواج، وحرص الكاتب في مجمل كتابه على الدفاع عن حرمة الشعر والمقالة كونه يزاولهما بالضبط مثلما يدافع الطبيب عن الطب، والمحامي عن المحاماة، والكُتّاب عموما عن الكتابة، فالشعر عنده بريء من الإثارة الجنسية، وحتى وإن اقتحم الشعراء مناطقها فقد فعلوا ذلك مع أبيات معدودة، متناسيا ديوان أبي حكيمة لصاحبه أبو حكيمة راشد بن إسحاق الموغل في الجنس الصريح، وعمر بن أبي ربيعة، والأحوص، والخليفة الوليد بن زيد، وحسين مردان، وجوزيف نجيم وغيرهم كثر قديما وحديثا، وبالتالي فالهجوم على الرواية من هذا المنظور بدرع الشعر سيدفع بالمهاجم حتما إلى الهلاك، ثم يحاول الكاتب أن يذكرنا بتعديله لمقولة "زمن الرواية" إلى عبارة "زمن القص"، حتى لا تهضم حقوق القصة القصيرة التي ذاع صيتها في وقت من الأوقات، وشبه هذا الصعود بتنازل الشعر عن موقعه التقليدي بوصفه أرقى أنواع الأدب.
في المقابل قال بأن الكتاب الشهير صدام الحضارات أصله مقالة، وصرح أن الذي جنى على المقالة هو اتساع قالبها وارتفاع منسوب تحررها من شتى القيود الأدبية، ثم يخترع الكاتب مقولة "الروائي جبان"، كونه يستتر خلف قصة مختلقة للتعبير عن رأيه، ويستعمل لذلك شخصيات يوظفها لقول ما لا يقدر على الجهر به بلسانه، والشاعر هنا يصدح بالقول المنسوب إلى شخصه بينما الروائي يتوارى خلف ألسنة غيره، وانتقد الكاتب سلطة النقاد على الإبداع واختياراتهم التي لا تبنى على أسس أدبية بل على الأهواء الشخصية، فيدفعون بالضعيف ويتهجمون على المجد، ليخضعوه لفروض الطاعة والولاء، حتى يحصل على الإجازة بقولهم "اذهب روائيا على بركة الله"، ثم قارن بين كذب الشاعر وكذب الروائي، وقال بأن الكذب ينطبق على الروائي أضعافا مضاعفة بينما تخرج المقالة بريئة من هذا الاتهام، كونها لا تنهض أساسا على الكذب، ثم يؤكد الكاتب أن عشاق الرواية عليهم أن يعلموا أن معشوقتهم ليست صاحبة وجود أزلي في عالم الأدب، ولا هي مرشحة للوجود الأدبي في العالم ذاته، ثم أننا نعيش موضة الرواية وليس زمان الرواية.
كما أشار بأن هوس الكاتب يعتبر هيّنا أن يوصف بكونه يتلهف على أن يقرأه الناس، ولكن الأدهى أن يتوسل رضا الجماهير ولو بالتصريح بأرقام ملفقة. وينتقد الكاتب تعامل وسائل الإعلام مع الكتّاب، ودورهم في صناعة النجوم منهم، وتقديمهم للنقاد على أنهم قوة تخلق آراؤهم التوهج كما تخلق الضجة، ولا تخلو الكتابة حسب الكاتب من عامل العنصرية، في شكل تعصبات، ويبقى محترفو الشهرة هم الكتّاب الذين يحسنون التودد إلى أكثر من عصابة!، ثم يعود إلى التأكيد مرة أخرى على أن ما نعيشه اليوم ليس زمن الرواية، وإنما زمن انتفائها واضمحلالها، شأنها شأن الملحمة، وعزا سبب ذلك إلى ما قاله واسيني الأعرج على أن دخول كل من هبّ ودبّ واستسهال الكتابة الروائية أدلة على موتٍ يمس جسد الرواية شيئا فشيئا، وينهي الكاتب بقوله أن الكتابة ليست شيئا مقدسا يصعب امتلاكه، فالكثير من الكتاب الكبار اكتشفوا الكتابة صدفة كهاروكي موراكامي وغابريال غارسيا ماركيز وغيرهم، ويمكن لأي كاتب أن يبدع في غير الكتابة، كما ليس من الحكمة أن نختزل روعة الكتابة في جنس أدبي دون آخر.
الكتاب في حد ذاته رأي محض لا يقوم على أسس أدبية، ولا يمكن اعتماده مرجعا للحكم بين الأجناس الأدبية، إن انجذاب الكاتب إلى الشعر والمقالة وتفضيلهما واضح للغاية، واعترف صراحة بكرهه للرواية حين قال أن علاقته بالرواية لا يمكن وصفها بالاستلطاف بأي حال من الأحوال، لكنه في المقابل يمدح الروائي الطيب صالح على روعة وأسلوب روايته موسم الهجرة إلى الشمال، وكأن الطيب صالح هو المقياس الأوحد للرواية العربية، وأن كل الروايات يجب أن تكون بمستوى رواية الطيب صالح وإلا فتبا للرواية، متناسيا أن الشعر نفسه فيه ما لا يرقى أن يُعدّ شعرا فهل نلغي الشعر على هذا الاعتبار؟
يعترف الكاتب أنه يحب مناوشة كل ما هو روائي، فهو يفضل الطيب صالح الروائي لأن له اسهامات في الشعر، ولا يذكر نجيب محفوظ مثلا فقط لأنه لم يكتب شعرا. العلاقة التي وصفها الكاتب بين الأجناس الأدبية علاقة غريبة، فالأصل عنده الصراع، أما إذا أحب شاعرٌ جنس الرواية وأحب روائي جنس الشعر فهذا لا يدخل إلا في خانة الاستثناء، وسماه "التصالح العميق". في اعتقادي أن الشاعر أساء إلى الشعر حين جعله مقياسا يحدد به جودة الرواية، فهذا جنس أدبي وذاك جنس أدبي آخر، وكنت أتمنى أن ينتقد الرواية من منطلق اعتبارها مكونا أدبيا قائما بذاته، ولا ينتقد الرواية بأداة الشعر 
فهذا لا يستقيم.
كتّاب المقالة والشعراء حصل معهم ما يشبه الغيرة الأدبية، فإلى وقت قريب كان الأدباء أمثال عباس محمود العقاد ومصطفى صادق الرافعي يسيطرون على فن المقالة، حتى صارت حكرا عليهم لا ينافسهم فيها أحد، فالمجلة أو الصحيفة لا يمكن أن تدرج في عمودها كاتبا مغمورا أو مبتدئا على حساب أدباء ذائعي الصيت، عكس الرواية التي فتحت آفاقا رحبة لكل المبدعين والمحبين لهذا اللون الأدبي. والسؤال المهم هل اقتربت الرواية اليوم من الإنسان وغاصت في معاناته وعرّت واقعه وضمته إليها بحب؟ بينما ظل الشعر يحلق في الحدائق والمنتزهات.
والشعر دائما ما يحتاج إلى قضية ليقاتل في سبيلها، ازدهر الشعر القومي على الأقل مع نكباتنا ونكساتنا واحتلال فلسطين والبلاد العربية ثم غابت القضية فتراجع الشعر واحتضر، إضافة إلى أن الشعراء تصارعوا فيما بينهم حول شكل القصيدة فضاع وقت كثير ومجهود كبير، كما يُسجّل اليوم هروب الكثير من الشعراء نحو الرواية، فإن لم تكن الرواية فارضة لنفسها ولونها لما حصل هذا الرحيل الأكبر، والشعر لا يمكن أن يعبر مثلا عن البطالة وينتقد الواقع التكنولوجي الذي أفرز مشاكل عدة، فهذا ليس من طبيعته وجوهره، بينما الرواية تستطيع ذلك وبكل إبداع، كذلك شمولية الرواية التي تتجلى في إمكانية أن تمرر الشعر عبر الرواية، ولا يمكنك تمرير الرواية عبر الشعر، وفي الكثير من الروايات الرائعة تحس وكأنك تقرأ قصيدة نثرية بكل مقوماتها.

وأخيرا لكل مكانته، ولكل محبوه وعاشقوه، ومن الطبيعي أن تلقى الرواية الإقبال الكبير على حساب الشعر، كما هو طبيعي أن الشعر كان هو المهيمن في الماضي لأسباب عديدة، فالألوان الأدبية لا تتغير لنفسها بل تتأقلم مع محيطها وواقعها، وهذا التنوع إن دل على شيء إنما يدل على مواصلة قطار الأدب بكل ألوانه رحلته في أغوار الإنسانية.


الشعر اليوم أصبح لغة متداولة بين الشعراء والنقاد، فالشاعر يكتب قصيدة نثرية لا يفهمها إلا هو، إذ يوغل في الرمزية والغموض بينما يكابد الناقد الوسيط بين الشاعر والقارئ محاولا فك طلاسمها وتعقيداتها فيحرم القراء من تذوّق الشعر الذي من المفترض أن ينساب إليهم بسهولة دون لبس، وهنا يظهر "جبن الشاعر"، على غرار "جبن الروائي"، في تواريه خلف رمزية متشبعة بالغموض والتعقيد إلى أبعد الحدود. 

بين شَطّة وبيكا.. الصراع الأكبر في المنطقة!


بدأ هذا الصراع كما تبدأ أيّ حربٍ بين جيشين، سوء تفاهمٍ، فشرارةٌ أولى، فتصادمٌ وتناحر، صراعٌ بين مجدي شطة الذي يمثل أغنية الطرب الملتزمة، وحمو بيكا الذي اتهمه شطة نفسه أنه تابع لتيار المهرجانات المتمرّد، رفع الاثنان لواءَ التحدي، ولم يرفض شطة أن يُحدّد خصمه بيكا مكان القتال في بلد من اختياره، فهو على حد قوله متواضع ومن تواضع إلى الله رفعه.
 انفجر التحدي الأكبر بينهما حين حَضَّر بيكا لحفلةٍ مجانية، وبتكرّمِ الفنانين أرسل دعوةً إلى شطة للمشاركة فيها، اعتبر شطة أن الدعوة إلى حفل شعبي كهذا هو انتقاصٌ من مكانته الفنية المزاحمة لكبار فناني الطرب، فرفض الحضور، وقال أنه مشغولٌ في القاهرة بلد الفن والإبداع، ردّ بيكا أن الحفلة ستُقام في موعدها المحدّد بدون شطّة ولا كَمّون، وأنّه غير معروف أصلاً في الساحة الفنية المصرية، وهذا ما أغاظ شطة فنعتَ الناطق الرسمي للسيد بيكا بالكلب، واعتذر بيكا لجماهيره بعد ذلك فألغى الحفلة لأسبابٍ أمنيةٍ محضة على حدّ قوله، ليردّ شطة بيه بكلمة زلزلت أركان الفن المصري برُمّته: "حذَاري".
إنه فعلا ً صراعٌ مثيرٌ بين قوتين جبّارتين ساذجتين، شطة عاشقُ الطرب، وبيكا فنانُ المهرجانات الأوّل، صراعٌ يعكس تسوّس أركان المجتمع العربي من الداخل، والكثير من الفوضى اللاّخلاقة التي يجد فيها اليائسون ملاذاً لهم حين تضيعُ حقوقُهم أمام أعينهم فلا يستطيعون أن يُحرّكوا كرسيّاً من مكانه، فقضية شطّة وبيكا على الأقل تجد فيها جانباً من التشويق والإثارة نفتقدهُ في أمور حياتنا الروتينية، المتشبّعة بالنفاق والنمطيّة، فالضحك على الذقون بات على مرأى ومسمع، والتهكّم له مجالس فسيحة لا يدخلها سوى أصحاب البِدَل الأنيقة، والجوع أصبح كذبةً يتبجّح بها الجائعون، والفقر لا وجود له إلا في أذهان المتعجرفين، والرّعب ما هو إلا فيلم سينمائي نستأنس به ونحن نُلفّ بأغطيةٍ دافئةٍ في العراء البارد، والظلم هو عدلٌ وضّاح لا يراه أصحاب قِصر النظر، والنهب سياسةٌ راقيةٌ لا يُجيدها سوى أذكياء السياسة، والاستبدادُ ليس استبداداً يا أيها الذين لا تعرفون مصالحكم كيف تُدبَّر، الاستبدادُ إيحاءٌ بالتضحية، فضحّوا ثم ضحوا قبل أن يُضحى بكم بدل أضحيات العيد، فمصلحتُكم في صمتكم، ومستقبلُكم في حِرمانكم، وتعلّمكم في جهلكم وأميّتكم، ونجاحكم في نجاح سيّدكم ورئيسكم، إذا أردتم النهوض ستَجلسون بالسياط، وإذا أردتم الوقوف ستُقيّدون بالحبال، وإذا أردتم العمل ستُكبّلون بالسلاسل والأغلال وتُلْقَون على ظهوركم مستريحين، فهل هناك راحة بعد هذه؟
إن كان هناك من صراعٍ مثيرٍ بين شطة وبيكا فعلينا الوقوف له احتراما، مع "تعظيم سلام"، فهو صراعٌ بين بؤسين متمخضين من رحم الحقيقة المرّة، بين تفاهةٍ فادحة، وأخرى أفدح منها، في واقعٍ عشوائي عام أصبح فيه ترويض الشعوب العربية العنوان الأبرز في المنطقة.
هكذا فهِم كل من شطّة وبيكا القصة على حقيقتها، فابتعدا من كل هذا الهُراء الذي يُسمى فنّاً راقياً ودخلا غماراً مربحاً يُدعى التفاهة في أعلى مستوياتها، وجمهورهما بالملايين، هم ضحايا مكائد من قَبيلِ ما قُلنا، قد يُغمى عليهم من وَحي ما تلتقطهُ الأذن من معانيَ رَوْحانية سامية، تُحلّق بهم في عوالم ملهمة تَخرجُ كالبلسم من حنجرة شطة وبيكة، فهل تريدون إبداعاً أكثر من هذا الإبداع؟ إذن لماذا لا يخرجان لنا بمثلِ هذا الفن الصادق المُنبعث من القلب، المُتدفّق من عُمق المعاناة وصُلب الحقيقة المعاشة، من دقائق الواقع اليوميِّ المرير، فهذا حقّهما، ثم إن كليهما يُبدع في المواويل التي "بتولّع الدنيا" وتُسعد الخلق.
فهل تريدون طرباً يطير بكم إلى الأعالي في زمنٍ ينزل بكم إلى المستنقعات، هل تريدون طرباً يُظهر لكم الواقع مزهراً في أرضٍ جدباءَ لم تعشْ قطرة ماءٍ واحدة، هل تُريدون أن يتغنّى الطرب بحبيبين يتبادلان بينهما كلمات الحب والهُيام على مسافةٍ بعيدة وهما لا يملكان أصلاً درهماً واحداً في الجيب، فضلاً عن هاتفٍ ذكي يستعملانه لهذا الغرض، هل تريدون منهما أن يُقلّدا هاني شاكر مثلا في أغنيته التي لا تخدمُ الدولة في شيء ولا تتقرّب منها شبراً واحداً:
"يا أصيلة يا بلدي يا ستّ الحُسن، يا بلد النور والدّفا والحُضن"، في حين أن مجدي شطة لخّص المسرحية برمّتها حين قال في أغنيته العبقرية الجديدة "يا مُرشدين مَلْكُمش أمان"، هل تريدون من شطّة وبيكا أن يتغنى كل منهما بنِعم الحق والعدل والمواساة، ومبادئ الديمقراطية والمساواة، ومُثُل التضحيات الجِسام في سبيل تراب الوطن الغالي؟ وقد عاش الاثنان ريعانَ الشباب في مواسير الصرف الصحي يعدّان الفئران الداخلة والخارجة منها، ويلحقان بسائق التوك توك ليتكرّم عليهما ببعض البقشيش، ولو لم يكنْ شطة وبيكا من أصحاب الفنٍّ النقي، لما حُرّر محضرٌ بوليسي ضد أحدهما بتهمة تلويث الذوق العام!

عالية محمد.. مُنقذةُ مكتبة البصرة التي خُلّدت حكايتُها!


قد يقول قائلٌ أن الاحتلال الأجنبي يهدف إلى اغتصاب الأرض والسيطرة عليها، ولكن الاحتلال إلى جانب ذلك يحاول أيضا طمس هوية الأرض التي يحتلها بالقضاء على كل معالم الثقافة فيها ومن بينها المكتبات. احترقت مكتبة البصرة خلال الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 فالتهمتِ النيران أكثر من 50 ألف كتاب من كل صنف ونوع، منها مخطوطات نادرة وثمينة تَحوّل معظمها إلى كومة رماد، ومع كل صفحة تأكلها النيران التي أشعلها الاحتلال مُتعمداً كانت حضارة العراق تُطمسُ وتاريخها يُدفنُ أمام مرأى ومسمعٍ من الجميع.
إلا أن السيدة الفاضلة عالية محمد باقر وكانت أمينة المكتبة آنذاك أبت إلا أن تُضحي بنفسها ومالها من أجل إنقاذ ما تبقى من الكتب والمخطوطات النادرة، فقامت بالمخاطرة بنفسها ونقلها إلى أحد المطاعم المجاورة ثم بعد ذلك نقلتها إلى بيتها الخاص لتكون أكثر أمناً من بطش الإنسان المُتعطّش للتخريب كعادته، وبعد أن عاد بصيص الحياة للبصرة قامت عالية محمد بإعادة الكتب إلى موطنها الأصلي في المكتبة، لتَكتبَ اسمَها خالداً في صفحات التاريخ كسيّدةٍ عظيمة أنقذت تراث بلدها من الاندثار.
هكذا تمكنت عالية محمد من إنقاذ أكثر من 30 ألف كتاب بما في ذلك مخطوط كتاب سيرة محمد عليه الصلاة والسلام الذي يعود تاريخه إلى حوالي 1300 سنة، طلبت من محافظ البصرة وقتها بالسماح لها بنقل الكتب إلى مكانٍ آمنٍ خوفاً من إتلافها بعد اجتياح القوات الأمريكية والبريطانية للبصرة وهروب الموظفين والجنود المكلفين بالحراسة، لكنه رفض في موقف غريب منه، إلا أن عالية أصرت على ذلك لتقوم بمعيّة سكان الحي باستئجار شاحنة كبيرة ونقل الكتب ملفوفة في الستائر ومعبأة في الصناديق إلى مطعمٍ مجاورٍ يُدعى مطعم حمدان يملكه السيد أنيس محمد حيث نجحت في نقل حوالي 70 في المائة من محتويات المكتبة قبل أن تحترق بعد ذلك بشكل كامل في حادثٍ غامضٍ لتندثر الكتب المتبقية.
وعندما وصلها نبأ احتراق المكتبة سقطت مغشيّة عليها وكادت تفقد حياتها إثر نوبةٍ قلبيةٍ حادة لكنها قاومت الموت وصارعت حالتها وتمكّنت بعد مثولها للشفاء من نقل جميع الكتب المخبّأة في المطعم إلى بيتها لتُعاملها كما تُعامِلُ فلذات كبدها، وبعد استقرار الأوضاع نسبياً في البصرة قامت بإعادة الكتب إلى المكتبة المُرمّمة، والعجيب في الأمر أن المكتبة أُعيد بناؤُها من طرف الجمعيات والمنظمات الإنسانية الدولية التي وصلتها عبر الجرائد قصة عالية محمد فقامت بجمع الأموال والتبرعات وتعاطفت بشكل كبير مع تضحيتها لإنقاذ تراث بلدها فتمَّ توظيف هذه الأموال والهبات لإعادة بناء المكتبة من جديد وفتحها في 10 تشرين الأول/أكتوبر سنة 2004 لتعود عالية محمد إلى منصبها أمينة المكتبة.
كانت تضحية عالية محمد كفيلة بأن يُكتبَ عنها الكثير في كل أرجاء العالم وتُؤلّف عنها مسرحيات وبرامج وتعقد معها العديد من اللقاءات الصحفية، فصدر كتابان حول الواقعة في الولايات المتحدة الأمريكية أولهما "تحرير البصرة وإنقاذ كتب العراق" سنة 2004 ثم كتاب "أمينة مكتبة البصرة" لجانيت ونتر سنة 2005 وهو كتاب موجه للأطفال تحوّل إلى مسرحية جابت معظم مسارح العالم.
تصدرت قصة عالية محمد أشهر الصحف العالمية وسردت نيويورك تايمز تفاصيلها على يد المراسلة الأمريكية شيلا، وصيغت على خلفيتها قصص للأطفال مزيّنة برسوم توضيحية في شكل حكاية مؤثرة كتبها رسام الكاريكاتير الأمريكي مارك ألان ستاماتي بعنوان "مهمة عالية: إنقاذ كتب العراق"، ودُرّستْ من الصف الثالث وحتى الصف السابع.
تُعيد هذه الذكرى الأليمة ما وقع لكُتب العراق إبان الغزو المغولي بقيادة هولاكو عندما دمّر كل مكتباتها وأصبح نهر دجلة بلون الحبر من كثرة ما أُلقيَ فيه من الكتب والمخطوطات الثمينة، ولكن امرأةً بحجم علياء محمد أو البطلة الثقافية للعراق كما يحلو لهم تسميتها وقفت سدّاً منيعاً في وجه مجزرة الثقافة العربية والإسلامية المروعة التي نفّذتها أيادي الاحتلال الغاشم دون أن يتحرك العالم العربي للدفاع عن تراثه وتاريخه المحفوظ في مكتبة البصرة العريقة، فوقف موقفَ المتفرج وألسنةُ النار تنهش في حضارته ليُضيف حلقةً جديدةً من الفضائح إلى مسلسل الخنوع المتواصل.

لماذا كان جبران خليل جبران يكرهُ رجال الدين؟!


إنّ ما كان يذهبُ إليه جبران خليل جبران في تعامله مع رجال الدين هو اعتبارهم شركاء في الظلم والقهر إلى جانب الحكام والأغنياء، فهذا الحلف الثلاثي الذي شكّل وما يزال الحلقةَ الفاسدة في منظومة المجتمع، طالما كان جبران يهاجمه بأشدّ العبارات وأقدح الأوصاف، ورغم أن جبران بشخصيته المتقلّبة التي تارةً تنحرفُ فتبدو رافضة لكل الأعراف والشرائع السماوية، وتارة تلج محراب العفّة والعبادة وترتقي إلى مرتبة الأنبياء، إلا أن علاقته برجال الدين لم تكن يوماً محلَّ ثقة أو هدفاً للمدح، فهم في نظره كما وصفهم في عرائس المروج "الخاضعون لأصنام مطامِعهم، المحرّكون بالصلاة شفاهَهم وقلوبُهم جامدة كالصخور، والراكعون أمام المذابح ونفوسُهم متمردة على الله".
طبيعة جبران المنجرفة وراء الفكر العبثي أو الجنوني إن صحّ التعبير، الفكر الذي لا يؤمن بإلهٍ أو شريعةٍ بالمعنى المتعارف عليه، ولا يعترفُ بقدسيةِ أيّة مبادئ أو تعاليم، فهو يميل إلى التغيّر الدائم المتشبّع بأفكار الحرية والانعتاق من العبودية، وإذا قابلنا هذه الشخصية الثائرة لجبران مع المؤسسة الدينية المُنغلقة على نفسها والثابتة في أفكارها ومعتقداتها، فإن هذا التقابل غالباً ما يلفّه الرفض والنفور، مما يجعل التقريب بين الطرفين من باب المستحيلات، فالمؤسسة الدينية تظلّ عند جبران تلك التجربة التي تتقوقع على ماضيها، وترفض الانفتاح على التجديد المستمر، وهذا بالضبط ما كان يُفضّله جبران خليل جبران ويسعى إليه، ويبقى مبدأ الاختلاف الذي يُقدّسه جبران، أشبه بتمردٍ ضد محنةِ العبودية ورفضٍ لإملاءات المقدّس، وتحكّمه في حياة الناس ومصائِرهم، إذ هو بمثابة سيف مسلّط على أعناقهم لا يجلبُ لهم سوى مزيدٍ من العذاب والشقاء، ولما كانت المؤسسة الدينية في نظر جبران متمادية إلى حدٍّ بعيد في تكريس هيمنة المقدّس، وسطوته على العقول، واستكانته إلى التراث القديم، فمحاربته أولوية، ورفضه ضرورة إنسانية.
في قصة يوحنا المجنون على سبيل المثال، يُعرّي جبران سلطوية رهبان الدير وطريقة تعاملهم مع الراعي يوحنا حين سرحت عجولُه فدخلت مزرعتَهم، فاستوقفوه وحاسبوه دون رحمة ولا شفقةٍ، وطلبوا منه المال وأرغموه على بيع أرضه، لولا أن دفعت والدتُه قلادَتها لرئيس الدير حتى يعفو عنه، لينتفض يوحنا في وجوههم قائلا: "هل يبيع الفقير حقله منبت خبزه، ومورد حياته، ليُضيف ثمنه إلى خزائن الدير المفعمة بالفضة والذهب؟".
لعبت الأموال الطائلة التي استحوذ عليها رجال الدين دوراً رئيسياً في فسادهم وانحرافهم إلى الشرور، وبالتالي ضاعت رسالتهم النبيلة القائمة على تهذيب النفوس وتقويم البشرية، قال عنهم سكرتير البابا أن واحدا في الألف منهم هو الذي يواظب على أعباء مهمته، أما الباقي فينصرفون إلى خدمة مصالحهم الشخصية وتضخيم ثرواتهم المادية، فسادت حالة من الجهل والانحطاط الخلقي، لتتحول الكنيسة إلى ما يشبه سلطة متجبرة، شأنها شأن أي حكم دكتاتوري متجبّر.
وفي قصة "الشيطان" التي أبدع فيها جبران خليل جبران في تصوير العلاقة التي تربط الشيطان برجال الدين المُنتفعين من إغراءاته للبشرية، دار حوارٌ ثريٌّ بالعبر والحكم الجبرانية بين الشيطان والكاهن الخوري سمعان، حين رفض هذا الأخير تقديم يد المساعدة له وهو منطرح على الحصباء ونجيع الدم يتدفّق من جراحه : "أية وظيفة يسندها القوم لك إذا ألغيت وظيفة محاربة الشيطان بموت الشيطان؟ ألا تعلم وأنت اللاهوتي المدقق أن وجود الشيطان قد أوجد أعداءه الكهان؟ وأن تلك العداوة القديمة هي اليد الخفية التي تنقل الفضة والذهب من جيوب المؤمنين إلى جيوب الوعاظ والمرشدين؟ منذ خمسة وعشرين سنة وأنت تسير متجوّلا بين قرى هذا الجبل، لتحذر الناس من حبائلي، وتبعدهم عن مصائبي وهم يبتاعون مواعظك بأموالهم وغلة حقولهم".

هذا التاريخ الحقيقي لرجال الدين على مدى عقود طويلة، كان واضحَ المعالم أمام جبران خليل جبران وضوح الشمس، فما كان عليه إلا أن يُصوّب إليهم ألسنة النقد اللاذع كونهم استغلوا الدين لاستثمار الإنسان وجعله أداة للوصول إلى سلطانهم المادي والمعنوي، ويمكن القول إن هذا الموقف الصارم من جبران لم يخلع عنه قبّعةَ التدين والاعتقاد بالإله، وإن كان إلها يتميز ببعض الخصوصية، ولم يكن الدين في فكر جبران مجرداً ولا مطلقا، وإنما يُعنى أساسا بالباطن، ولا يمكن أن يكون الظاهر مقياساً لمدى مصداقية التديّن.
وإذا كانت نظرته إلى الدين عموما نظرة معقدة تسبح في الأفكار الفلسفية والتصورات الإنسانية وتطغى عليها رؤية جبران الخاصة، إلا أنه لا ينتقد الشريعة من مُنطلق أنها قانونُ الله في أرضه، ومنهاج رعيته، وإنما ينتقد استغلال رجال الدين للشريعة بهدف السيطرة على حقوق الضعفاء، والتحالف مع النظام الفاسد لتقسيم الغنيمة، فتحولت الشريعة إلى قدرٍ محتومٍ ينصاع الناس لها غصباً وبتكليفٍ من المؤسسة الدينية، دون حتى إمكانية طرح استفسارٍ أو اعتراضٍ أو شيءٍ من هذا القبيل، بيد أن الشريعة في نظر جبران قابلة للتغيير والتحديث : "إن الدين بسيط في حقيقته، وبعيد عن الغموض الذي يحيطه به رجال الدين"، وقال: "في قلبي كره لما يقدسه الناس، وحب لما يأبونه، ولو كان بإمكاني استئصال عوائد البشر وعقائدهم وتقاليدهم لما ترددت دقيقة".
طالما كان غطاء الدين شمّاعة لخداع الساذجين، ويحصل ذلك في كل زمان ومكان، إلا أنه ترعرع في زماننا هذا مع بروز تيار الأحزاب السياسية التي ترفع لواء الدفاع عن المقدسات في وجه من يُسيئون إليها ويستهدفونها كما تزعم، وعندما نردد مقولة "لا تثق بالسياسي"، فعلينا أن نضيف إليها "لا تثق برجل الدين السياسي" أيا كانت مرجعيته، لأن الجمع بين متناقضين أمر مستحيل، فكيف تؤلف بين الدين الداعي إلى الطهر والنقاء، والسياسة الخبيثة المنطوية على المكر والخداع؟ والفصل بين الديني والسياسي في هذا المقام أمرٌ لا بد منه، على الأقل لإظهار حسن النوايا، فالسياسة ملاذ رجال الدين، مثلما أن الدين يبقى هو ملاذ السياسي المخادع في مجتمع جاهل تتحقق فيه كل المعجزات.

"السيطرة على الإعلام".. كيف لا نقرأ هذا الكتاب لتشومسكي؟!


كيف لنا ألا نقرأ كتاب السيطرة على الإعلام للفيلسوف والمفكر الأمريكي الشهير نعوم تشومسكي، لنكتشف الوجه الآخر للإعلام المتواري عنا، ولنعي الصورة الحقيقية والمتوحشة للإعلام الأمريكي على عكس الصورة البديهية المزينة التي تبدو للغالبية منا، وحتى نزيل تلك الغشاوة التي طالما حجبت عنا جوهر الحقيقة وماهية الأمور من حولنا، وكيف أن الدعاية أو البروبكندا هي من تتحكم في زمام أمور العامة وإدارة الرأي العام، ورغم أن أمريكا تبدو في ظاهرها تلك الإمبراطورية الراعية للديمقراطية وحقوق الإنسان عبر العالم، إلا أن حقيقتها بعيدة كل البعد عن هذه الصورة المزيفة التي سوقتها اعتمادا على قوة إعلامية هائلة متحكمة في العقول وموجهة للجمهور.
وهنا يعرض تشومسكي كيف أن هيئة كريل للدعاية والمكونة من كبار الشخصيات الأمريكية استطاعت في عهد الرئيس ويلسون تحويل الرأي العام الأمريكي من مناهضة الحرب ضد ألمانيا إلى الاستعداد الكامل لدخول الحرب العالمية الأولى بهستيريا وتعطش، وأورد تشومسكي في كتابه حجم النفاق الذي يقف وراء إمبراطورية الإعلام العالمي وتحديدا الإعلام الأمريكي، القادر على تغيير أنظمة وإبادة شعوب وإشعال حروب طاحنة عن طريق الترويج لأخبار كاذبة ونشر دعايات لا أساس لها من الصحة، لتشكل بها ما يشبه الصدمة الكبرى تجعل المتلقي على استعداد كامل لتصديق أي شيء يُعرض عليه.

ويسير الإعلام جنبا إلى جنب مع السياسات المتبعة للولايات المتحدة الأمريكية، بحيث يسهر على تقديم المبررات والذرائع اللازمة التي من شأنها تعزيز موقف واشنطن تجاه أي قرار اتخذته أو حرب شنتها، رغم أن هذه المبررات غالبا ما تكون واهية وصبيانية، وهذا بالضبط ما حصل مع صدام حسين إبان حرب الخليج وكيف أن الإعلام الأمريكي تمكن وفي فترة وجيزة جدا من تغيير صورة زعيم العراق من حليف قوي للولايات المتحدة الأمريكية إلى حاكم ديكتاتوري متمرد على قيم الديمقراطية.
يلعب الإعلام دورا مهما في صناعة الخطر المحدق بالشعوب، وهذا الخطر يستلزم بالضرورة التحرك عاجلا لوقفه وتقديم كل التضحيات في سبيل ذلك، هنا تتبلور فكرة السيطرة على الشعوب التي نعتها تشومسكي في كتابه بقيادة القطيع الضال المنساق وراء إملاءات السلطة الحاكمة، ليتحول مع الوقت إلى كراكيز ساكنة تكتفي بالمشاهدة للعملية الديمقراطية فقط لكنها لا تشارك فيها.
ثم يختتم تشومسكي كتابه صغير الحجم بحكاية الصحفي القادم من المريخ، والذي أراد به أن يوجد فاعلا محايدا يتخذه حكما على تناقضات الولايات المتحدة الأمريكية في حربها على الإرهاب، في حين أنها تغمض الطرف عن جرائم ومذابح ضد الإنسانية كانت طرفا رئيسيا فيها، لتظهر نواياها المبيتة تحت غطاءِ هذا المبرر السخيف لشن حربها المُخطّطِ لها مسبقا مثلما فعلت مع ألمانيا والشيوعية.
وكما نقلت أمريكا الحرب إلى خارج حدودها ورمت بها في أفغانستان والعراق وسوريا، قامت أيضا بالموازاة مع ذلك بإدارة الصراع الإعلامي خارج حدودها، وذلك بالضغط على الأنظمة الاستبدادية ليسير إعلامُها وفق الأجندات التي تُحدّدها، على عكس الدول الشمولية التي تتحكم في إعلامها الداخلي لكنها تفتقدُ السيطرة على الإعلام الخارجي الذي يحركها كيف يشاء، فينشر فضائحها إذا دعت الضرورة لذلك، ويتغاضى عن تجاوزاتها لنفس السبب.
ويمكن القول أن الضجة التي عرفها كتاب السيطرة على الإعلام لتشومسكي بعد صدوره سنة 2003 لم تكن لتحدث لولا أن الشعب الأمريكي بعيد كل البعد عن مستنقع السياسة الآسن، وقد حصل معه ما يشبه الصدمة القوية دفعته إلى طرح تساؤلات من بينها: هل تفعل الولايات المتحدة الأمريكية كل هذا دون أن نشعر؟ في حين أن كل ما جاء به الكتاب لا يشكل جديدا بالنسبة للشعوب العربية التي يعرف صغيرها قبل كبيرها وجاهلها قبل متعلمها أن أمريكا طالما مارست وتمارس الكذب بشكل يشبه إلى حد بعيد شغفاً متوارثا، وهي لا تولي اهتماما كبيرا للرأي العام الداخلي الذي يعيش حالة من الترف ومن السذاجة السياسية بقدر ما يؤرقها تشبع الشعوب العربية بالفكر السياسي وإدراكها الكبير لماهية الأمور في المنطقة، وهذا حال الشعوب المتخلفة، تجري فيها السياسة مجرى الدم، في حين نجد في الدول المتقدمة أن شغلهم الشاغل مثلا هو تنمية الذات والحفاظ على رشاقة الجسم وممارسة الرياضة وما إلى ذلك، وأكثرهم لم يسمع بحرب العراق أو سوريا ولا يعرف حتى موقعهما من الخريطة.
أعتقد أن نقطة ضعف الإعلام هو الإعلام نفسه، بمعنى أن الإعلام يفضح بعضه البعض، ويظهر هذا جليا في البلدان الديمقراطية التي تتنافس فيها المؤسسات الإعلامية محاولة إظهار الحقيقة وفضح الطرف الآخر، وهذا لا نجده طبعا في الدول الشمولية التي لا تقوم أصلا على أسس ديمقراطية، بحيث تميل كلها إلى تكريس قطبية الإعلام، وعدم فتح المجال أمام المنافسة الإعلامية التي تحسن من جودة المعلومة وترفع من نسبة مصداقيتها.
كما أن الدول الشمولية تسعى دائما إلى تتفيه الإعلام وتسفيهه وجعله سطحيا إلى ابعد حد، يُسلط الضوء فقط على قضايا تافهة متناسيا القضايا المصيرية التي تهم الشعوب، حتى ينفرَ الناس منه، ويُعرضون عنه تماماً، وبالتالي يُفسحُ المجالُ أمامه واسعا لاقتياد القطيع المتبقي بالطريقة التي يريدها.
وإعلام الدول الشمولية لا يخرج عن دائرة إعلام اللحظة، أو إعلام الفوضى، فتجده ثابتا على وتيرة واحدة حتى إذا ظهر مستجد شمر على ساعديه ونشط وتحرك وارتفع منسوبه الإعلامي، ودافع ونقّب عن الذرائع والمبررات، ثم في الأحوال العادية سرعان ما يعود إلى روتينه الممل، ورغم تعدد المنابر الإعلامية العربية إلا أنها فاقدة لرسالة الإعلام النبيلة، كونها تقبع تحت وصاية رجال الأعمال والأحزاب السياسية ويحتدم على أثيرها التراشق بالشتائم والكلمات البذيئة، لتضيع قيمة الخبر والمعلومة، وخير دليل على هذا ما يجري اليوم في الإعلام المصري الذي فقد كل أوراقه الإعلامية، وتحول إلى شيء آخر لا يمتّ للإعلام بصلة.
إن كتاب السيطرة على الإعلام لتشومسكي عزز من فضيحة سيطرة أمريكا وهيمنتها على الإعلام الداخلي والخارجي، وأمريكا لا تلتفت لانتقادات المؤسسات الإعلامية الدولية، فلتقل ما تشاء، المهم لديها أن تسير قدُما في تفعيل مخططاتها على أرض الواقع، لتتحول صدماتها السياسية مع مرور الوقت إلى واقع معاش يتقبله الجميع، أما الإعلام العربي فهو أمام تحديات كبيرة تفرض عليه إعادة هيكلة المنظومة الإعلامية برمتها، وتحويلها من إعلام هدام ينشر التفاهة بين الجمهور ويعمق الهوّة، إلى إعلام هادف يحل الأزمات ويقرب وجهات النظر.

قائمة المدونات الإلكترونية