الثلاثاء، 27 فبراير 2018

عندما كنت جنينا


أتذكّرُ جيداً عندما كنت جنيناً في بطن أمي، كتلة صغيرة من روح ولحم، تتأهبُ لاستقبال عالمٍ جديد، تسعة أشهر قضتْهَا أمي في تعبٍ وقضيتها أنا في أكلٍ وشربٍ واسترخاء، كنتُ في عالم مختلف تماماً عن عالمنا المضطرب، رغم أنه ضيّقٌ من حيث الفضاء، إلا أنه المكان الآمن الذي لا يُضاهي في أمنهِ وهدوءهِ مكان، كنتُ أتقلَّبُ يميناً ويساراً بحرية تامةٍ لا أعبأ إن كان ذلك يُؤذي أمي أم لا، أتجوّلُ كما يحلو لي، أجلس، أنهض، أقف، أفعل كل شيء، لا أخشى ظلام المكان ولا أشكو شدّته ووحشته.
لقد شاءتِ الأقدار أن نأتيَ من مكانٍ ضيّق لنعود إليه بعد انقضاءِ العمر، وبين المنزلتين فضاءٌ رحبٌ ممتدٌّ إلى حدّ النظر، وحياةٌ مسهبة قد نشكو فيهما من زَخَم الحياة وهمومها، الكلّ يحمل ذكريات ذاك المكان المهيب، وتلك الفترة الممتدّة لشهورٍ معدودة، لكنّنا لا نُعيرها اهتماماً وإن كانت فعلاً حياة٬ بكل تقاسيمها، رُسمت فيها شخصيتنا، وعُلّمت معالمها، وتذوّقنا فيها أول طعمٍ للوجود، ولو جلسنا مع أنفسنا الآن وأطلقنا العنانَ لمخيّلاتنا لتذكّرنا سنفونيتها نغمة بنغمة.
كانت حياتي مرتبطة بنظامٍ مُحكمٍ دقيق، إن حدثَ فيه أيُّ خللٍ بسيطٍ معنى ذلك أن الحياة انتهتْ بالنسبة لي، كنتُ أعيش في راحة بال وطمأنينة، أتقلّب في ماءٍ بلّوري، أتنفّس بعُمقِ رئتي، لا أحملُ همّ الغد لأنّني غير مسؤول على ما أنا فيه، ولا على ما يجري من حولي، ولا على ما يربطني بعقدةِ الحياة من حبلٍ رفيع.
كنت أسمعُ مراراً أصوات الأنين في الخارج، ألتقطُ تنهيدات الآهات وهي تصرخُ من فراقٍ وفُقدان، أعلمُ علمَ اليقين أنّ ما وراء الجِدار عالم متوحش مليء بالأشباح والأنياب، فيهِ من الانتقام ما فيه، وفيه من الحروب والآلام ما فيه، لكنّ خرير المياه في الربيع كان يجذبُني، وحثيث الأشجار في الخريف وهي تتمايل من لمسةِ نسيمٍ عابرة تُحيي فيَ شوق الحياة، وتحرّك سرّ الحبّ في نفسي. لم يكن شعوري بالأمان يومها إلا في ثقتي بإنسانٍ يحملني بين أحشاءه، بين كبدهِ وفؤاده، في توحّدٍ وتآلف، فهمتُ أنّ عُمق الحياة في رباطٍ خالدٍ بين الحبيب ومحبوبه، في تمازجِ الأرواح في روحٍ واحدةٍ مُرفرفة في العلياء، لا تكاد تفرّق فيها بين الأرواحِ المتمازجة.
كان أكثر ما يرهبني استغاثات الأحياءِ أمثالي في جوفِ الليل وزمهريرِ الرياح، تُصارع المتهجمين على حقّ البقاء ليُلغوا من الدنيا زهوراً منثورةً على روض الحقول الخضراء، ثم يُشعلون النّار فيها حتى يذوبَ الرماد في الرماد، ويختلط الصراخ بالتراب، يُنزلون العقابَ بأيديهم باسمِ الفضيلةِ المدنّسة بالدّنس، لم أكنْ أنتظرُ قُدومي إلى هذا العالم بقدرِ ما أخافُ على حاملي منه، من العادلِ والظالم، من الخيرِ والشر، من القريبِ والبعيد، ممّا اقترفتْ أيدي من ينتظرون قدومَ الزّهر حتى يحفروا قبره، ويُحوّلوا فرحة قُدومه إلى عَزاء، من الحروب التي يرتفعُ فيها صوتُ الرصاص عالياً من كل نخلةٍ سامقة في تلال الثّمار الغنّاء، من الإنسان الذي حوّلتهُ الحياة نفسُها إلى نسرٍ هائجٍ لا يعرفُ معنى عبارة حقّ البقاء، من الغُربة التي يَحياها الإنسان وهو في بلده بين أهله وأقرانه فلا يجدُ لغربته هذه إلا غربةً ثانيةً يُجاوز لأجلها البحار والجبال، من خيرٍ تأبّط شرّاً حتى لا تكاد تفرّق بين وجه الشرّ فيه ووجه الخير المُتواري خلف نظرات الغَدر الموروث، من فئةٍ تمنحها كل ثِقتك، فإذا بها هباء لا خيرَ تجلبه إليك، ولا شرّ تدفعُه عنك، ولا تسير بك إلى برّ الأمان هروباً من عاصفةٍ هوجاء إلا كما تسير السفينة على اليُبس بلا شِراع.
طالما سمعتُ قصص أمي ترويها لأختي الصغيرة التي لا تعرفُ النوم حتى يتسلّل الخوفُ إلى قلبها من شقوق الحكايات، عن قاتلٍ يختطفُ الصّغار في الليل فيضعُهم على ظهرهِ في كيسٍ من الثّوب ثم يَختفي، عن أمٍّ افتقدتْ كلّ أبناءها الصغار وهي عائدة إلى البيت تحملُ قوتَ يومها وإذا بها تجدُهم بعد بحثٍ طويلٍ جثثاً هامدةً في الغابة وسط الأحراش وخيوط العنكبوت، فانزوتْ وحيدةً تحت شجرة الصنوبر تبكي وتنتحب، كان أبي لا يُفارق قنوات الأخبار كما لا يُفارق سيجارته، ما كنتُ ألتقطه في أذني من الأنباء شيء فظيعٌ يُمزّق القلب، أحقّا يحدثُ في الخارج كلُّ هذا القتل وسفكِ الدّماء؟ أحقّا يصدر كلُّ هذا الكره الدّفين والحقد البغيض من إنسانٍ يُشبهني؟ أتينا أنا وهو من وطنٍ واحدٍ استجْدينا الحياةَ فيه من حبلٍ وضيع؟ أحقّا يدُ الإنسان تقصفُ بالمدافع؟ تذبحُ بالسكين؟ تكبسُ على الأرواح بالزّناد وقد كانت أيادي الناس ترفعه إلى السماء ثم تحتضنهُ منتشيةً بقدومه كانتشائِنا بالربيع، أحقّا سأكونُ واحداً من هؤلاء؟ أتقاسمُ الخبزَ معهم؟ أبتسمُ في وجوههم؟ أرافقهم جنباً إلى جنبٍ في مسيرة العُمر الطويلة؟ وهل سأخرجُ مرغماً إلى الدنيا لأجد حبَّ الآخرين ونُبل أفعالهم، أم سأستبسلُ في الدّفاع عن ذكرى وجودٍ كنتُ فيه حرّاً طليقاً بلا قيود؟
سمعتُ أن أوّل جريمة على وجه الأرض كانت من صُنعِ إنسان، اقترفها في حقّ أخيه، ولم تتحمّل الأرضُ التي سُقيتْ بدماء الظّلم هَولَ الفاجعة فأنبتتْ أزهار الدّمع وأشجار الحَزَن، وجفّتْ أوراقُها بالبكاء فسقطتْ ذابلةً قبل مجيء الخريف، وبكتِ الجبال حتى انفجرتْ دموعُها عيوناً حفرتْ في الصّخر طرُقاً وفجاج، ومنذ ذاك اليوم، كان وصْل الإنسان بالدنيا حدُّ الانتقام، وإن لم يكن كذلك فإرادة الانتقام، وحبّهُ للطغيان غدا إدماناً فاق كل الحدود، وتمادى فيه حتى خُيّل للمعذَّبين في الأرض أن ما من خيرٍ أتى إلى الدنيا بعد يوم الجُرم المشهود.
أتذكر المقامَ شهراً بشهر، ووعيي حينها يتفتَّحُ كالوردة ليَكتشف المحيطَ من وراءِ جدارٍ ويستشعرَ ماهيتَهُ يوماً بعد يوم، مثلما تحسُّ اليد بحرارة الإناء وهو يسخن فوق النّار على مَهْل، كان صراخُ طفلٍ بجانبي أقبلَ للتوّ على الدنيا فضيعاً، حادّاً، فقد ظننْتُ أن العالمَ مُريعٌ بالقدر الذي تستقبلُ فيه أولى شهقاتك بالصراخ، لكن سرعان ما تغيّر البكاءُ إلى هدوءٍ مُطبق، ثم عَلَتْ الضّحَكات من حوله وعمّ المكانَ بهجةٌ أراحتِ النّفوس، وطمأنَتِ القلوب، وتحوّلَ بكاءُ الطفل بسمةً وضّاءة، وكأنّ التفاؤلَ بدأ يدبُّ إلى نفسه شيئا فشيئا ليملأ أولى صفحاتِ حياتهِ البيضاء بحبّ الحياة، ومجابهة اليأس، والأمل في العطاء، فلو عَلمَ الإنسانُ أصلَه لما طغى وتكبّر، ولفكّر ثم فكّر ألف مرّة قبل أن يُقْدمَ على إزهاقِ روحِ أخيه، أو سلبِ حقه والتجبّر عليه، لقد أتينا من وَهْنٍ وسننتهي إلى وَهن في أرذل العمر، وبينهما نعيش قوّةً وصلابةً تُعيدنا دائماً إلى ضُعف البداية وهوان المآل، فترقى النّفوسُ الحيّةُ عن كل قبيحٍ وقد عرفتْ قَدْرها٬ ذاكَ هو أكبرُ تحدّياتها.

الاثنين، 19 فبراير 2018

على هذه الأرض ما يستحق الحياة


لم نُخلق عبثاً، ولم تُوجد حياتنا بالصدفة، ولم نأتِ إلى هذه الأرض لأنّنا اخترنا أن نأتي بمحضِ إرادتنا، بلْ هي مشيئة إلاهية أزلية، قدّرت أن نكون أنتَ وأنا جزءا من هذا العالم، لبنةً من لبناته، قانوناً من قوانينه، هل تتصور أن يكون العالم بدونك؟ من غير لَمستك، نَفَسك، أثَرك، كَيْنونَتك؟ لا أبداً، فالعالم خُلق وعُدّل على مقاسك، لتكون أنتَ فيه، وليس شخصاً آخر، لقد اختاركَ القدرُ أنتَ وحدَك لتظفرَ بشرف المشاركة، دون دعوةٍ من أحد، أو تكلّفٍ من أحد، أنتَ هنا ليس بوساطةٍ من أحد، ولا بتكرُّمٍ من أحد، أنتَ هنا بشخصيتك، ووجودك، هذا هو مركزُ قوّتك العظمى، ومظهر من مظاهر هَيْبتك وحريتك التي جئت بها إلى الدنيا دون استئذانٍ من أحد.
لقد شاءتْ مشيئة الله عزّ وجلّ أن يحلّ على هذا العالم إنسانٌ هو أنت، وجعل لقدومكَ بشرى يسعدُ بها كل من حولك، فَقُدومك كان سعادة للآخرين، وليس نقمةً عليهم، لقد نِلتَ من الحنان والحبّ والعِناق ما جعلك تشعرُ بعُمقِ الحبّ وماهيته، تلمسُ صدقَ مشاعرِ المحبّين، ودفءَ ما يجمعك بهم من روابط إنسانية سامية.
جئتَ إلى هذا العالم تَرتعد، تبكي وتصرخ، لكنّك سرعان ما هدأتَ واطمأننت بعد أن لمستَ الحنانَ في عيون المتجمعين من حولك، كان أوّل لقاءٍ لكَ بالعالم مكسوّا بالعطف والسعادة، لم يتنفّس مجيئك المبارك غير هذه الأحاسيس، فكان أوّل ما تستقبل به فرحة الآخرين بك، ابتسامة بريئة، ولسان حالك يقول : على هذه الأرض ما يستحق الحياة.
ومرّت الأيام، وبدأتَ تخطو خطواتك الأولى، تحاولُ المشيَ بإصرارٍ فتسقط، لتُعيد الكرّة مرّة أخرى، إلى أن نجحتَ في تثبيتِ رجليك على الأرض، كان هذا الموقف أوّل انتصارٍ شخصي لك في مواجهة تحديات الطبيعة، دون مساعدةٍ من أحد، أو قرارٍ من أحد، وقفتَ على رجليك لأنّك علمتَ أنّ وقت الوقوف قد حان، وفعلتَ ذلك بإرادةٍ خالصة منك، دون تردّد أو اتّكال، وتمكنتَ أخيراً من بلوغ النّافذة وفتحها، واكتشافِ عالمٍ آخر أوسع بكثير من الجدران المحيطة بك، وفتحتَ النافذة على مصراعيها، فإذا بالكون ينبسطُ أمامَك، والطبيعة تكشف لك عن سحرها وجمالها، وتتدلّل لك كطفلةٍ صغيرة في مثل سنّك، فأنت لست إنساناً عادياً، وقدومُكَ ليس بالأمر الهيّن، والطبيعة بكل ما فيها من وديانٍ وتلالٍ وبحارٍ وأشجارٍ هي لك، مِلكك، وُجدت لأجلك، لو لم تكنْ أنت لما كانت هي، ولو غابتْ هي أو غبتَ أنتَ من نظام الوجود المُحكم لحدث خللٌ في موازين الكون ودقّته، ولكان حتماً مصيره الفناء. وأنت تتأمّل من نافذتك وتتساءلُ في عظمةِ الخالق، ورونقِ المخلوق، تغنّي لك الطيور فَرِحةً بك، ويتموّج الزّرع الأصفر أمامك وكأنه يلوّحُ لك بالتحية، تصفو السماء بشمسها الساطعة، ويداعبُ وجنتيك هواءٌ عليل، فينطقُ قلبك بهجة: على هذه الأرض ما يستحق الحياة.
لقد جئتَ إلى هذا العالم نسخة فريدة، لا تشبه غيرك، ولا يشبهك أحد، جئت حرّاً مجرداً من كل عِبء، وليس في عُنقك من حبلٍ يخنقكَ إذا أنتَ لم تؤدّ مُهمتك على أكمل وجه، ولا مسؤولية على عاتقك سوى أن تحافظ على سرّ الوحدانية في قلبك، فيكون ذلك نبراساً ومعيناً لك على كل شيء، تلك هي مسؤوليتك في الحياة، وما دون ذلك لا شأن لك بما يؤول إليه عُمرُك، وتُمحى فيه سنواتُك، ويُقَسَّم فيه رزقُك، لا تحمل همّ أن تكون مرموقاً في مجتمعك، واصلاً أعلى درجاتِ المكانة، فيصير ذلك سيفاً على عنقك يلازمك في حياتك كلّها، ولا يشغلنَّكَ همٌّ كالجبال، يُجبرك إجباراً أن تصير مثلاً شخصيةً مشهورة، أو عالماً فذّا، أو فقيهاً متمكّناً، فهناك ملايين المشاهير والعلماء والفقهاء في الأرض، ولن تصنعَ بذلك من معجزة مهما فعلتَ إلا بالقَدْر الذي تُتيحه لك ظروفك التي لا مفرَّ منها، وما من معجزة تصنعها أكبر من إحساسكَ بنفسكَ واعتزازك بها، فكما يحسُّ الطبيب بنشوةٍ خاصة عند نجاح عملية جراحية، كذلك يُحسُّ الفلاح بنفس الشعور عندما يرى أثرَ مجهوده على محصوله، وكذلك يحسُّ رائد الفضاء عندما تطأ رجله كوكباً من الكواكب.
الحياة صعبة، هذا هو القول السائد، وهي فعلاً كذلك بمقدارِ ما نراها على هذا الحال، وإن كانت صعوبتها واقعة فهي ليست ثابتة، وليس من ثابتٍ في الحياة سوى إيمانك الراسخ بأنّك تستطيع فعل كل شيء، وتحقيق أي هدف، وتجاوز أي عائق، هذا ما يجب أن يكون ثابتاً في حياتك، ودرساً تجعله صوب عينيك، وجزءًا من قراراتك الداخلية، ومدخلاً لتغيير واقعك.
لا يزال الخير يُحيط بك من كل جهة، فأنتَ لم تأتِ إلى العالم لتلقى شرّاً، أو تعش شقاءً، وإن كان ذلك يُهيّأ لك حينا من الدهر، لا شكّ أن إنسانيتنا تتجدّد مع سقطاتنا وتجاربنا في الحياة، ستجدُ من يمدُّ لك يد الخير، ستجد من يقول لك انتبهْ وأنت تخطو خطوات نحو الهاوية، ستجدُ من يمنحك كلمة طيبة تُنمي طاقتك، توقظ إنسانيتك، تحيي حبّك للحياة، لا بدّ وأن تواجه مواقف تُشعرك أنّك ما زلت عاجزاً على إحياء ذاك الإنسان بداخلك، الإنسان الذي من المفترض أن يكون أنت، الإنسان الذي خبّأته بستارٍ من اليأس وعدم الثقة، الإنسان الذي أقبلَ محبّاً للحياة من أوّل يوم، أرادته الحياة، اختارته الحياة، عشقته الحياة، ما مِن قوّة تحول دون طُموحه، أنت لن تغادر الدنيا حتى تأخذَ نصيبك من كل شيء، من سعادةٍ وشقاء، وفرحٍ وألم، ومن منّا قضى حياته دون أن يتوقّف عند هذه المحطات، فلا تعتقد أنك وحيد تعاني في هذا الكون، أو أنك السّعيد الوحيد الذي يرقصُ ويغنّي فيه. هذه المشاعر انعكاسٌ لنفسيتك، فكم من حزين بلا سبب يقطر قلبُه دمعاً وهو كائنٌ في جوٍّ من السعادة، وكم من سعيد تحيط به الأحزان من كل جانب وهو قانعٌ مغتبطٌ يصنع سعادته من واقعه البسيط، على هذه الأرض ما يستحق الحياة.
لا تقلّل من شأنك، وليس عيبك الظاهر سوى في ما آلتْ إليه نفسُكَ من سوء تقديرِكَ لها، ولا يغرنَّك ما وصل إليه غيرك من علمٍ وجاه، فكل شيءٍ بمقدار، ولا أحد يرضى بما لديه ولو ملك كلّ ما يُريد، فضُعفُ الإنسان مُتَجَذِّرٌ في جشعه، وقوّته في اقتناعهِ بنصيبه ورضاه به، ولكن كُنْ على يقين أنّك ما جئت هنا.. إلا لتصلْ.

الاثنين، 5 فبراير 2018

زلة سيدة التضامن



"كيف تكون غنيّا بدولارين فقط؟" لا تُشبه هذه النظرية مثيلاتها التي يُدرسها رواد التنمية البشرية والاقتصاد عبر العالم، يساعدون بها الناس على تنمية مداخيلهم، ولكنها نظرية فريدة من نوعها، تختصر كل الكلام الذي يقال في هذا الإطار، تتجاوز كل الدورات التدريبية والكتب والمجلات والندوات التي تصب في نفس المراد، لتأتي دون مقدمات بنتيجةٍ مباشرة كاملة مكتملة، تقدمها لنا في طبقٍ من ذهب.
أكدت هذه النظرية المذهلة وزيرة التضامن الاجتماعي بالمغرب في تصريحها الأخير، حين اعتبرت أن من يملك 20 درهماً -أو ما يعادل دولارين اثنين- لا يُعتبر فقيراً، ولا يصنف ضمن لائحة الفقراء المتضعضعين! وبالتالي إذا طبقنا تقنية إقصاء المعاملات المحتملة وألغينا عامل الفقر المدقع، فصاحب 20 درهماً هو بطبيعة الحال إما من الفئة المتوسطة، أو من الفئة الميسورة، شاء أم أبى، وعليه أن يسعد بهذا اللقب ويفتخر. وكان من الأفضل جداً أن تنزل نقطة النون إلى الأسفل، فتصبح النظرية الجديدة : كيف تكون غبيا بدولارين وأنت لا تعلم؟ فالحقيقة أن مثل هذا الكلام المضحك لا يوجه سوى للسذج الأغبياء، أما أصحاب العقول السليمة السويّة لا يمكنها تصديق هذا الهُراء العجيب.
هل ستكفي 20 درهماً في اليوم طالبَ علم؟ أم تكفي العامل؟ أم تسدُّ رمق الجائع؟ أم تكفي الأرملة وأولادها، والأعزب وتطلعاته، والمتزوّج ومستلزماته؟ أم ستستُر العاريَ؟ أم ستدثّر المرتعد من البرد؟ أم ستفتحُ البيوت؟ أم ستجلبُ الدواء؟ أم سترفعُ البناء؟ أم ماذا ستفعلُ 20 درهماً بالضبط يا سيادة الوزيرة؟
لعلك مررتِ بما يمرُّ به كل واحدٍ منا في مُستهل مشواره المعيشي، فتسلّقتِ الحافلة المكتظة بالركاب حتى كِدتِ تسقطينَ من الباب الخلفي على جانب الطريق، وتشاجرتِ يوميّاً مع الناس لكي تحجزي كرسيّا لكِ في تاكسي متوجه إلى الكلية، ولعلّك رسبتِ في امتحانٍ ما لأنّك لم تجدي من النقود ما تقتنين بها كتاباً أو مطبوعاً مقرّراً في الامتحان، وعانيتِ الأمرّين في الدراسة من قلّة ذات اليد، وشظف العيش، وتحمّل مصاريف الكراء تقاسماً مع الأخوات، ونُفضتْ جيوبُك من أعباء التنقل في الحافلات والقطارات، من مدينةٍ إلى مدينة، ومن مدرسةٍ إلى مدرسة، ومن جامعةٍ إلى أخرى، فهل كانت 20 درهماً يا سيادة الوزيرة كافيةً بالحدّ الذي يُؤمن لك كل هذه النفقات؟ ويُغطي كل هذه المصاريف؟ في زمنٍ لم يَكنْ عهد إلغاء مجانية التعليم قد أقبلَ بعد؟
ولعلّ كل التجارب التي مررتِ بها شأنك شأن أيّ بنتٍ من بنات الشعب المثابرات، من المفترض أن تكون كفيلة بأن كشفت لك عُمق الواقع، ولقّنتك حقيقة الأمور من حولك، وبدلَ أن تَنقلي لنا تجربتك الشخصية النموذجية حتى تصير مشعلاً يقتدي به بناتنا إن هُنّ أردنَ الوصول لسدّة النجومية والنجاح، جئتِ لنا بنظريّة عصيّة على الفهم، هي بمثابة قُطبٍ سالبٍ لقطعة مغناطيس، في وجهِ القُطب السالب لقطعة الواقع الأخرى، فهل يا ترى يتجاذبان؟ لا أبداً، ويا ليتَ لو كانت 20 درهماً هذه تكفي لأن تصون حياة الفرد منّا، وتحفظ كرامته، وتملأ بطنه، وتنتشله من قاعِ بئرِ النسيان، لانتصرنا حينها على الفقر أيّما انتصار، ولحطمنا تمثاله وألغينا وجوده من الدنيا، ولصار الفقر أسطورة نرويها في الليل لأطفالنا حين يخلدون إلى النوم.
كيف ذلك؟ ببساطة شديدة مع قليلٍ من "التضامن" سنحقّقُ المبتغى ونجسّدُ الحلم.
فلو قسمنا على سبيل المثال مبلغ ثلاثين ألف درهم وهو راتب متضامنٍ ما، على 20 درهما، سيكون خارج القسمة هو ألف وخمسمائة، وهو عدد المستفيدين أو المرشحين في المجتمع للقفز نحو الطبقة الميسورة، عملاً بالنظرية السابقة، فما بالُنا لو تضاعف عدد المتضامنين أضعافا مضاعفة، وزاد عدد المساهمين والمنخرطين، وتوسّعت دائرة حملة التضامن، لا شكّ أننا سننجح في سحق الفقر كليّا من الوجود، بل وسنصدر الثراءَ إلى الخارج.
وبما أنّك وزيرة التضامن والتنمية الاجتماعية، فما عليك يا سيادة الوزيرة إلا أن تشجعي مبدأ التضامن والتكافل بيننا، وتجعليه شعارنا الأول، وهدفنا الأسمى، وسلاحنا ضدّ الفقر والحاجة، وبهذا ستقدمين حلاً جوهرياً متكاملا لمعضلة الفقر والتهميش والإحصائيات المخجلة، وستُدرَّسُ نظريتك الجاهزة في كبرياتِ الجامعات الدولية.


قائمة المدونات الإلكترونية