الأربعاء، 8 أغسطس 2018

قيمة المناظرة في إثراء الفكر الإنساني

الحوار الفكري البناء هو الذي يرفع مستوى النضج الإنساني لينعكس إيجاباً على مختلف المجالات، هو البوصلة التي تحمي البشرية من الانسياق نحو طريق الهاوية، هو الذي يفتح شهية النخبة المثقفة لتُفصح عن أفكارها ورؤيتها الخاصة لماهية الأمور من حولها، هو الذي يُعبّد الطريق لفكّ طلاسم الخلافات الفكرية والعقبات الإنسانية التي تقف سدّاً منيعاً في وجه أي تقدم منشود، هو القارب التائه في عرض البحر يدنو شيئاً فشيئاً نحو ضفة الحقيقة، هو الذي يُشعر الإنسانَ بوجوده ويضمن له بقاءه، هو الذي يُثمّن قيمة ما يملكه الإنسانُ حتى يكتشفَ به ما لا يمتَلك، وهو ردُّ فعلٍ طبيعيٍ مواكبٍ لتغيرات المجتمعات الإنسانية وتعاقب الحضارات، فالركود الفكري لا يمكن أن يوصل سوى إلى واقعٍ من الانغلاق والعدمية، وإذا كنتَ لا تريد فكر الغير المغاير لفكرك، فأنتَ بذلك تحكم على فكرك بالإعدام والتلف قبل أن تُصدر أحكاماً على مخالفيك.
وعندما نقولُ الحوار البناء، فالمقصود هنا الحوار المُفضي إلى نتائج مقبولة ومعقولة، مع تجنّب النقاشات البيزنطية العقيمة، يُقال أنّ من بين أسباب سقوط الإمبراطورية البيزنطية دخول رُهبانها في نقاشاتٍ لا تُجدي نفعاً كمسألة ما إذا كانت الملائكة ذكوراً أم إناثا، وحول من وُجدت قبل الأخرى الدجاجة أم البيضة وما إلى ذلك....
لا ترفض فكرة أي شخصٍ مهما كانت، لأنها لا تعدو أن تكونَ استفزازاً لمبادئك وأفكارك، وهنا تكمنُ قوّة المحاور، وهنا يقوى ردّه قبل حتى أن يبدأ بطرحه، ورفضكَ للفكرة هو إيذانٌ بعجزك عن كشفِ افترائها وهو هروبٌ من مواجهتها وبالتالي انتصار صاحبها عليك، أما إذا صرّحتَ بعدم قدرتكَ على مناقشتها مع تقبّل طرحها بكل احترامٍ وإيحالها على الجهة المختصة الموكل لها النظر والحكم، فأنتَ بذلك قد أبنتَ عن موقف المخلصين لقيمة العلم وقدسيته، ويبقى المهم في نهاية المطاف أن النقاش قد يُثير العديد من ركائز البحث، ويُؤسس لقاعدةِ التقارب، ويُلهب شففَ المعرفة، ويُشكل مادة دسمة للباحثين المتخصصين، وربما يكشفُ بعض نقاط التلاقي أيضا.
فدخول مقام النقاش يقتضي بادئ ذي بدءٍ تقبل الفكرة المحورية، بمعنى الإنصات لها وعدم احتقارها وسبّ صاحبها وهذا دليل على نضج ورقيّ المحاور، فلا أحد يملك الحقيقة المطلقة سوى الرسل والأنبياء، ولا أحد من البشر معصوم من الزلل سواهم، لأن القاضي النهائي هو الله سبحانه وتعالى، ونحن لسنا مجبرين على إقناع الآخر والاستماتة في ذلك، أو الاقتناع منه والاستسلام له، قال تعالى: "لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدي مَن يَشَاء"، فالهداية هداية الله، والاقتناع هبة منه سبحانه، ولا تظن أن الناس تقتنع لأول وهلة، وبعد كل مناظرة، ولكن الأمر يتطلب صبراً طويلاً وليناً كبيرا، فرسالة محمد كانت حملاً ثقيلاً على كاهل بعض صناديد قريش، فكونها ساوت بين الغني والفقير والسيد والعبد والأبيض والأسود جعل من الصعب عليهم تقبّلها والانصياع لها، وإنما احتاج الأمر مع بعضهم إلى زمن طويلٍ فتح المجال أمامهم لمراجعة أفكارهم ومعتقداتهم وإعمال عقولهم وضمائرهم، فما كان عليهم إلا أن أسلموا لله بعد ذلك من تلقاء أنفسهم. قال تعالى: "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ".
إن حضارة المسلمين كانت حبلى بالنقاشات الدينية، وقد اعتبرت العِرق النابض لهذه الحضارة، وعلى إثرها أُسّست العديد من الفرق والنحل والجماعات وذاع صيتها، وكتبت مجلداتٌ لا تعدُّ ولا تحصى أثرت المكتبة العربية الإسلامية، ولم تكن تُعتبر من الحرام يومها وإلا نفرَ الجميع منها، ومن بينها مناظرة عبد الله بن عباس للخوارج حينما خرجوا على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبين الشيخ السلفي المعروف ابن تيميه المتمسك بالكتاب والسنة والإجماع، وبين الشيخ أحمد بن عطاء الله السكندري من كبار علماء التصوف، وحدثت هذه المناظرة التاريخية في عصر الملك الناصر محمد بن قلاوون بسبب ظهور أشياء عند الصوفية فيها استخفاف بأداء العبادات كما كان يرى الطرف المقابل. وجرت مناظرة بين بن تومرت وفقهاء دولة المرابطين بالمغرب الأقصى، وذلك بأمر من والي المدينة فتفوّق عليهم، ولم يجد الوالي إلا أن يطرده من فاس، فمضى إلى عاصمة البلاد مراكش، وهناك عاود مناظرة فقهاءها ثانيهً فغلبهم مرة أخرى، فطُرد أيضا من المدينة، وذهب إلى أغمات ثم إلى قريته بالسوس الأقصى، واستقرّ هناك رغم أنه ادعى المهدوية. ومن أشهر المناظرات كذلك مناظرة أبو عبد الله حسين بن منصور الحلاج مع محمد بن داوود قاضي بغداد،  لكنها انتهت مع الأسف بصلبه بباب خراسان علي يدي الوزير حامد بن العباس في أفظع نهايةٍ تعرفها مواجهة بين آراء متباينة، وتناظر الفلاسفة اليونانيين كأفلاطون وسقراط  وشكّلت محاوراتهم إثراءً لا يمحى للفلسفة الإنسانية.
وتناظر الرسول عليه الصلاة والسلام مع نصارى نجران، فتجادلوا في نبوته وفي دين إبراهيم وعيسى ابن مريم، قال ابن عباس‏:‏ اجتمعت نصارى نجران، وأحبارٌ من اليهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنازعُوا عنده، فقالت الأحبارُ‏:‏ ما كان إبراهيمُ إلا يهودياً، وقالت النصارى‏:‏ ما كان إلا نصرانياً، فأنزل الله عَزَّ وجَلَّ على لسان رسوله‏:‏ "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ في إبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإنْجِيلُ إلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ"، وكانوا يُعلنون الكفر صراحةً ويتكلمون مع رسول الله بغلظة حتى أنهم صلّوا صلاتهم في مسجد المسلمين فأرادوا أن يردوهم فمنعهم رسول الله، وكان الرسول يخاطبهم وهم يعلمون أنه مبعوثٌ من الله ولكن الكبر والحسد والتجبّر يمنعهم، وكيف السبيل إلى مجادلة إنسان تعرف أنه متأكد تماماً من ضلالة رأيه، وسلامة رأيك، إلا أنه يتحداك لا لشيءٍ سوى لأنه يكرهك ويحقد عليك، ورغم هذا التعنّت البشري الراسخ لم يُبدِ الرسول من جهته أي امتعاض من محاورة هذه الفئة والردّ على خرافاتها بخُلقٍ حسن، وكذلك يجب على كل مناظرٍ أن يكون.
وفي العصر الحديث ما تزال المناظرات الدينية قائمة على قدمٍ وساق، رغم اختلاف أساليبها، فتناظر البنا وطه حسين، وفرج فوده والشيخ محمد الغزالي، وتناظر الشيخ أحمد ديدات مع القساوسة المسيحيين، وتناظر المتنصّر الأخ رشيد مع عدد من شيوخ الإسلام، وغير ذلك كثير.
والمناظرة القويمة تتطلب الدراية والعلم بموضوع النقاش، والإحاطة به من جميع جوانبه، وتتطلب قدراً واسعاً من الحلم والإنصات والتقدير، وضبط النفس ورحابة الخاطر والابتعاد عن التشبث بالرأي والتعصّب له، وتجنّب الأحكام الجاهزة المسبقة مع صفاء الذهن وسلاسة التفكير، ولذلك يقول الشافعي رحمه الله: "ما ناظرتُ عالماً إلا غلبته، وما ناظرني جاهل إلا غلبني".
ولعل تُراثنا وثقافة مجتمعاتنا تجعل من إثارة بعض النقاط للمناقشة والتمحيص خروجاً عن المألوف، وزيغاً عن الصواب، وبالتالي فالتراث العربي في مجمله كبحَ جماح الحوار المختلف البناء، فأثّر ذلك بشكل سلبي على حرية الرأي والمعتقد وتعدّد وجهات النظر، ولكل من أراد التعمق أكثر في هذه النقطة عليه أن يعود لكتابات الجابري وجورج طرابيشي في الموضوع.
إذا لم تُفكر فيما ينفع الإنسانية ويجمع شملها ويُوحّد أفكارها ويقرّب وجهات النظر بينها، فإنّك حتماً ستفكر فيما يضرّ بها ويفرّق أفرادها ويحرّك بينهم مشاعر الرفض والانتقام، فاختر لنفسك أي طريق تسلك، فالطريق الأولى ستنتهي بنا في يوم من الأيام إلى مجتمع متسامح متآلف، والطريق الثانية ستنتهي بنا في الغالب إلى مجتمع منغلق متطاحن يعود شيئا فشيئا إلى العصور الحجرية. والمناظرة يجب أن تكون ثقافة تُربى في المجتمع، وتُنمى في الأجيال الصاعدة، ولا تقتصر فقط على الأمور الدينية المحضة، بل تُفتح أبواب المناظرات على مصراعيها لحل مسائل السياسة والاقتصاد وآفات المجتمع، ولا بدّ لنا من تهيئ مجتمعٍ يُنصت فيه أفرداه  إلى بعضهم البعض، ويحترمون آراءهم فيما بينهم رغم اختلافها، فالتشبث بالرأي لا يدلّ على صحة رأيك، والإنصات لغيرك لا ينمّ عن ضعفٍ منك، واقتناعك بفكر الآخر لا يدلّ على انهزامك أمامه وانتصارهِ عليك، وإنما يدل على سموّ فكركَ واحترامك لفطرتك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

قائمة المدونات الإلكترونية