الخميس، 31 مايو 2018

التّسامح وفرص التّعايش بين الاديان والثّقافات.. دراسة في فكر ماجد الغرباوي



مقدمة: 
إنّ الحديث عن فرص التسامح والتعايش بين الأديان والثّقافات والسعي إلى بعث قيم التسامح من جديد من بين المواضيع التي تشغل الساحة الثّقافية العربية والإسلامية بشكل كبير خاصّة في أيامنا هذه، بعد ما يسمى بثورات الربيع العربي، فقد أصبح هذا الموضوع رأيا عاما خاصّة في ظل تصاعد وتيرة الحروب الثّقافية وتفشي ظاهرة الخطابات التكفيرية التي أصبحت هاجسًا خاصّة للدول الضعيفة، وهذا ماحدى بالدول العربية والإسلامية إلى تكثيف الجهود أكثر سعيًا للحفاظ على الهوية الإسلامية وترسيخ قيم الفكر الوسطي وقبول الآخر بإقامة ملتقيات وعقد ندوات للبحث والتخابر في سبل إماطة اللّثام عن المخبوء في علاقته بالقوى العالمية الامبريالية التي تحاول إلصاق التهم بهويتنا الإسلامية، فالتحول الاستعماري اليوم أخذ سبلاً جديدة ووسائل عديدة مختلفة عن تلك التي عهدناها مع الاستعمار التقليدي المباشر.
لقد تغيّر السباق من مضمار التسلح إلى مضمار السيطرة الثّقافية، لتصبح الثقافة السائدة هي الثّقافة الغالبة، والثّقافة التابعة هي الثّقافة المستلبة من طرف الثّقافة الغالبة، وهو حال ما نراه اليوم من تلك العولمة الفكرية والاستلاب الثّقافي لبنية الهوية الإسلامية التي تشهد غزوًا رهيبًا لمقوماتها من طرف الثّقافة الغربية التي تحاول ربط الفكر التكفيري بتاريخنا، بطرق وأسالب متعددة ومتنوعة خاصة مع تحول العالم إلى قرية كونية صغيرة الأمر الذي زاد من وتيرة هذا الغزو المنظم في نظامنا الاجتماعي والسياسي ناهيك عن نسقنا الثقافي الفكري المبثوث في نصوصنا التراثية، خاصة في ظل التحول العالمي إلى نظام القطب الواحد وبالتّالي الثّقافة الواحدة إثر بروز معالم النظام الدّولي الجديد بداية من تسعينيات القرن الماضي.
من خِلال ما سبق سنُحاولُ في هذه الورقة البحثية اماطة اللثام عن ما قدمه المفكر العراقي ماجد الغرباوي في هذا الاطار باعتباره مثقفا تنويريا درس التراث بطريقة جديدة، من أجل تحرير العقل الاسلامي من قيد التراث. وعمل على ارساء قيم التسامح والحرية وقبول الآخر. هذه الخطابات التي يفتقدها عصرنا اليوم خاصة ونحن في زمن الحروب الثقافية وسطوة المركزية الغربية الساعية بقوة إلى الفتك بتراث وتاريخ الهوية العربية والإسلامية وذلك من خلال أليات العولمة الثقافية والسياسية والاقتصادية وغيرها، والتي باتت تفرض علينا فرضا في اطار الحوار الحضاري وعمليات التّثاقف والاستيراد القسري لتلك الانظمة الفكرية التي لا تمت بأي صلة لهويتنا الحضارية والثقافية فضلا عن الدينية، وهو ما أحدث ردة فعل عنيفة تمثلت في تفشي الخطابات التكفيرية والغلو والتطرف. وهنا نسعى لبيان بعض الحلول التي قدمها ماجد الغرباوي والتي نرجو من خلالها بث روح التسامح ونشر الخطاب الفكري الوسطي الإسلامي الصحيح.

نحو طرح اشكاليات التّعايش بين الأديان والثّقافات:
يُعتبر الحديث عن التّعايش بين الأديان والثقافات أحد أبرز الاشكاليات التي باتت تطرح نفسها اليوم، خاصة وأن عصرنا أصبح يتخبط في نوع من التيه الكبير بسبب عدول الإنسان عن التمسك بالبوصلة الربانية، فضلا عن علو صوت الخطابات التكفيرية المنتشرة هنا وهناك وهو ما زاد من حدة الصراع بين الثّقافات والأديان، هذا الموضوع الذي أصبح يؤرق الحكومات ويقض مضاجع السياسيين فضلا عن المفكرين المشتغلين بهذا الميدان لعل على رأسهم المفكر العراقي ماجد الغرباوي، فأمام موجة الاختراقات الفكرية من خلال نظريات عنصرية تروج للعنف وتعمل على تفكيك أواصر قيم التعايش والتسامح تطرح العديد من الأسئلة كيف لنا أن نرسي قواعد التّسامح والتّعايش في عالم يسوده الكره والحقد؟ وما السبل والأدوات الكفيلة للتصدي للسياسات الغربية التي تتعامل بها مع الدول العربية والإسلامية والتي تسببت في ظهور موجة العنف والغلو؟ وهل يمكن الحديث عن نوع من التّوافق الحضاري والديني في كنف التعددية الثّقافية والإنسانية؟.
جميع هذه الأسئلة المثيرة تطرح نفسها وبقوة في فكر ماجد الغرباوي الذي عمل وبشدة على فك شفراتها وايجاد الحلول المناسبة لها لتحقيق قيم التسامح والتعايش بين الأديان والثقافات.

الآخر في التراث ودوره في النهضة المنشودة
هل كان لتواجد الآخر في تراثنا العربي الإسلامي دور في النهضة وبأي صورة كان وجد هذا الآخر؟ وما الضوابط والمنطق الذي حكم تواجده؟. سؤال نستهل به سبر بحر آراء ماجد الغرباوي وحديثة عن التّراث ومكان الآخر فيه وفرص التعايش التي حضي بها وكيف كان دوره في بناء نسيج الحضارة العربية الإسلامية، وهو ما يطرح أسئلة عميقة عن حقيقة تواجد الآخر في تراثنا العربي الإسلامي ودوره في النهضة المنشودة.
يعتبر مفهوم النهضة والفعالية الحضارية عموما وسبل قيامها أحد أبرز الموضوعات التي اشتغل عليها كبار مفكرينا بالوطن العربي والإسلامي ومنهم الغرباوي. فهذا المفهوم من المفاهيم الجدلية التي تستعصي على الباحث لتداخله مع العديد من العلوم خاصّة علم الاجتماع وتطرح العديد من الإشكاليات المتداخلة التي يتخبط فيها عالمنا العربي والإسلامي الذي يرزح تحت وطأة الفصل بين الحياة الاجتماعية وتوجيهات الدين وهو ما أكده ماجد في ارجاعه أن السبب الحقيقي يعود إلى "قطع خيوط التواصل بين العقيدة والحياة الاجتماعية. فعقيدة التوحيد التي كان يعيشها الانسان المؤمن في بدايات البعثة الشريفة ممارسة حياتية يومية تطبع سلوكه واخلاقه، صارت تدور في مدارات عقلية بعيدة عن هموم الحياة ومتطلباتها"(1).
أمام هذا الخطاب نتبين مدى الأهمية الكبيرة لأثر العقيدة في تنظيم سير حياة المسلم فما إن تهنا عن الطريق تاهت حضارتنا وأصبحت تحكمها الشهوات وابتعدنا عن روح الإسلام السمح الذي يحث على بعث روح التعايش ونبذ العنف، وهو ما جعل غياب الأفكار الداعية للتجديد والتسامح تغيب بشكل كبير لتحل محلها خطابات الغلو والتطرف وبالتالي فقدان روح الانبعاث النهضوي.
يعرف المفكر الجزائري مالك بن نبي الحضارة بقوله: "إن حضارة ما، ما هي إلا نتاج فكرة جوهرية تطبع على مجتمع في مرحلة ما قبل التحضر الدفعة التي تدخل به التاريخ، ويبني هذا المجتمع نظامه الفكري طبقا للنموذج الأصلي لحضارته، إنه يتجذر في محيط ثقافي أصلي، يحدد سائر خصائصه التي تميزه عن الثقافات والحضارات الأخرى"(2) . وبتتبعنا لهذا القول المقتضب للحضارة يتبين لنا المرتكزات الأولية لبناء الحضارة من شروط روحية وأخرى مادية تحقيقا لتلك الفعالية المنشودة " مجموع منسجم من الأشياء والأفكار، بصلاتها ومنافعها وألقابها الخاصة وأماكنها المحددة، ومجموع كهذا لا يمكن أن يتصور على أنه مجرد تكديس، بل كبناء وهندسة، أي تحقيق فكرة مثل أعلى" (3) .

تجديد الخطاب الديني وفرص بعث التّعايش من جديد:
لطالما أكد ماجد الغرباوي على ضرورة تجديد الخطاب الديني الإسلامي فهكذا بوسعنا حسب ما ذكره أن نقيم نوعًا من الحركية الحضارية نحو تجديد بعث الخطاب الديني من جديد لتشمل النهضة جميع المجالات من فكر واقتصاد وسياسة وغيرها من المجالات، ليكون للفرد المسلم الدور الأبرز في هذا الحراك مستغلا الوسائل الضرورية لتفعيل حركة التاريخ وهندسة دورة الحضارة القائمة على التراث ومدى تواجد الآخر فيه بما يتلاءم والمعطيات الحضارية الموجودة بعيدا عن فكرة التكديس التي لم يكن لها وجود على مستوى الحضارة الإسلامية أيام الأندلس مثلا باعتبارها نموذجا تراثيا عالميا شهدت دورا كبيرا للآخر ومدى اسهاماته في قيام الحضارة الإسلامية، والتي ما كانت لتكون لولا فرص التسامح والتعايش التي قدمها الإسلام لهم، حيث كان التمازج الثقافي مع الآخر والعطاء العلمي والفكري في أوج ذروته وهو ما ذكرته المفكرة والفيلسوفة الألمانية زيغريد هونكه بعرضها لتلك النماذج التراثية العالمية التي قدمت الكثير للحضارة الإنسانية على اختلاف ثقافاتهم وتنوع مللهم ونحلهم.
ولكن بعد حين من الزمن انقلبت البوصلة الحضارية فلقد تعرض الإسلام والمسلمون في السنوات الأخيرة لحملة ظالمة من الافتراءات والمزاعم التي أرادت أن تلصق بالإسلام تهم التعصب والإرهاب، وترويع الآمنين، ورفض الآخرين، وغير ذلك من دعاوى لا أصل لها في الإسلام ولا سند لها من العلم ولا من الواقع التاريخي.
فالحضارة الإسلامية التي انطلقت من تعاليم الإسلام منذ أربعة عشر قرناً من الزمان قد ضربت أروع الأمثلة في التسامح والتعايش الإيجابي بين الأمم والشعوب من مختلف الحضارات والثقافات والأديان والأجناس، ولا تزال هذه التعاليم الإسلامية حية وقادرة على صقل عقل الأمة وتوجيه سلوكها وتعاملها مع كل البشر في كل زمان ومكان بعيدا عن خطابات الغلو والتطرف المقيتة وهو ما عبر عنه ماجد بقوله "خطاب الغلو نجح في ترسيخ بديهيات عقيدية، من خلال منهج مراوغ، يعتمد الاستدلالات الساذجة، ويستغل رثاثة الوعي، وانحطاط الثقافة، والبيئة المثيولوجية، فيشاغل وعي المتلقي بمضامين غرائبية خرافية عن الرموز الدينية، يغفلون معها سؤال الحقيقة. أي السؤال عن ذات الرمز وحقيقته قبل الحديث عن خصائصه ومعجزاته وكرامته. فعندما يشاغل النص الوعي الرث بأحاديث خارقة، مذهله، غرائبية لا يلتفت لسؤال الحقيقة، بل تصبح لديه منظومة بديهيات، ومبادئ عقيدية مسلّمة، تندرج ضمن اللامفكر فيه، والمقدس، الذي يحرم مقاربته، فضلا عن نقده. هذه البديهيات هي التي تمرر روايات الغلو، لتراكم مزيدا من المعرفة المشوهة، العقيمة"(4) .
فهذا هو الخطاب الديني المقيت الذي يدعو إلى ركود العقل والأخذ بالنص بكامل حذافيره دون إعمال للعقل أو الاعتناء بما يسمى بفقه الواقع ومتغيراته الثقافية والحضارية، وهنا يتم تغييب الدور الحقيقي للمثقف الحر الواعي وهو ما جعل ماجد يقول: "وباختصار إن الأمة بحاجة أولا إلى وعي رسالي تتجاوز به أزمتها، كي تتمكن من تحدي الممنوع، ولا يتحقق لها ذلك إلا بإعادة تشكل وعيها داخل فضاء معرفي، يستظل بمرجعيات تجدد باستمرار فهمها للنص الديني، في ظل المستجدات الحياتية المتأثرة بالظروف الزمانية والمكانية"(5).
فما إن تم تغييب دور المثقف برزت اثر ذلك خطابات الغلو والتطرف وانعدمت قيم التسامح والتعايش تلك القيم الإنسانية السامية التي لطالما دعا ديننا الحنيف وسنتنا النبوية إليها انطلاقا من قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾"(6) فإذا ما تم تغييب هذا الشعار فإن الفوضى والتشتت والحروب والغلو وشتى أصناف التطرف سيكون سيّد الموقف ولذلك لابد من تجديد الخطاب الديني وبعث سبل التسامح و التعايش فيه من جديد بعد كل هذا السبات العميق الذي ميز خطابنا الديني وهو ما يجعلنا نبحث في سبل تجديد تراثنا وبشدة.

تجديد التراث وسبل بعثه من جديد عند ماجد الغرباوي
يولي ماجد الغرباوي موضوع تجديد التراث أهمية كبيرة لما للتّراث من دور كبير في حفظ الهوية العربية الاسلامية خاصة وأنه يمثل الانطلاقة الأولى لأي نهضة فقد كان ماجد الغرباوي يطمح إلى انشاء استراتيجية نهضوية نابعة من تراثنا الديني تعترف بأهمية تواجد الآخر ودوره في اثراء الحضارة الإسلامية النائمة على فكرة التعددية الثقافية فالتراث منبع وأصل الهوية بدونه نفقد مقومات وجودنا فالهوية هي: "مركب من المعايير، الذي يسمح بتعريف موضوع أو شعور داخلي ما. وينطوي الشعور بالهوية على مجموعة من المشاعر المختلفة، كالشعور بالوحدة، والتكامل، والانتماء، والقيمة، والاستقلال، والشعور بالثقة المبني على أساس من إرادة الوجود" (7).
ولعل هنا يبرز كنموذج كبير لخطاب التعددية الثقافية نموذج العصر الأندلسي ذاك العصر الذهبي الذي تميز بانتشار كبير لمختلف التيارات الفكرية والدينية ورغم ذلك سادت قيم التسامح وكان الحب والتّعايش سيد الموقف فكان يعيش المسلم جنب اليهودي دون ترهيب أو تقتيل وهو ما جعل ماجد الغرباوي يدعو وبشدة إلى ضرورة تجديد التراث قائلا "ينبغي اعادة النظر في الوعي الذي تكون في اطار بعض النصوص الدينية والمرويات التاريخية" (8). وقد ضرب ماجد الغرباوي في ذلك مثالا بارزا في خطاباتنا التراثية وهو نموذج ما يسمى بالفرقة الناجية الذي يشكك بصحته دائما. حيث يقول بأن هذا الحديث: "لعب دورا كبيرا في تشظي الأمة، والإصرار على احتكار الحقيقة ورفض كل الفرق والمذاهب التي تحتفظ بوجهات نظر اجتهادية مخالفة، حتى بات الجميع إلا ما ندر يعتقد بخطأ المخالف مهما كان نوعه"(9). وهذا ليس من روح الإسلام السمح الذي يحترم باقي الأديان أو مختلف التوجهات الفكرية ويدعو إلى تعددية ثقافية في كنف الامة الواحدة.
لقد كان ديدن الإسلام منذ ظهوره قبل أربعة عشر قرنا من الزمن يرغّب أهل الكتاب من غير المسلمين بالإسلام داعيا إلى مكارم الاخلاق ومثمنا إياها لذلك شاعت حينها خطابات تحث على افشاء الخير ودحر نوازع الشر وخطابات التكفير البغيضة فعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الناس معادن في الخير والشر خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)(10).
يقول ابن حجر رحمه الله: قوله: (خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام)، وجه التشبيه أن المعدن لما كان إذا استخرج ظهر ما اختفى منه ولا تتغير صفته؛ فكذلك صفة الشرف لا تتغير في ذاتها بل من كان شريفاً في الجاهلية فهو بالنسبة إلى أهل الجاهلية رأس؛ فإن أسلم استمر شرفه وكان أشرف ممن أسلم من المشروفين في الجاهلية (11). وفي هذا يقول الإمام النووي رحمه الله: ومعناه أن أصحاب المروءات ومكارم الأخلاق في الجاهلية إذا أسلموا وفقهوا فهم خيار الناس (12).
لكن عصرنا اليوم انقلبت فيه كل الموازين فخفت الوعي بمدى أهمية التسامح والتّعايش بين الأديان المختلفة وهذا ما يدعوا إلى ضرورة الوعي العميق بضرورة ابراز مثل هذه النماذج الدعوية لإعادة الأمور إلى جادة الصواب وحصر خطابات الغلو والتطرف فحسب ما ذهب إليه ماجد الغرباوي أنه "من دون الوعي لا يمكن تنطلي مؤامرات التزوير على الواقع والتاريخ والدين والحقيقة. ومن دون الوعي لا يمكن النهوض بمشروع حضاري مستقبلي يعتمد مرجعية فكرية وثقافية، مؤسس في ضوء المبادئ الإسلامية. إذن فالوعي أساس في نجاح المشروع الإسلامي، وهو من مهام المثقف الرسالي، الذي ينهض بهذا الدور، انطلاقا من مسؤوليته في تكوين عقل الأمة وتجديد هويتها الثقافية" (13) تلك الهوية الثقافية التي تعاني منذ زمن بعيد تيها كبيرا غياب العقل وسلب الإرادة وأفشى نوازع الغلو والتطرف، وهو ما جعلنا نغيب عن الساحة الحضارية بالعالم فلا دور لنا إلا تلقي الأوامر وتطبيقها بحذافيرها من طرف القوى العالمية فلا اهتممنا بتراثنا ولا بواقعنا الراهن فبتنا مأسورين مدحورين مقيدين لا حراك لنا وهو ما يدعونا إلى ضرورة التساؤل عن ما موقع المثقف الواعي من كل هذا.

دور المثقف الواعي في ايجاد فرص التعايش:
قديما قال الشاعر:
اقرأوا التاريخ إذ فيه العبر... ظل قوم لا يدرون ما الخبر.
بيت شعري على قلة حروفه لكن معانيه تحمل الكثير من الدلالات والسياقات التاريخية والحضارية التي تختزل العديد من الملامح المشكلة لتطور الأمم، لتميط لنا اللثام مبرزة تلك الملامح الكاشفة لبواطن ما اكتنف التاريخ من أحداث
وصراعات بشرية، مشكلة بذلك منعرجات حضارية خطيرة رفعت أمما عاليًا في السماء وأسقطت أخرى أرضًا في حين أخرجت الكثير من سياقها تمامًا معلنة أن لا مكان لها على الركح الحضاري لتحولات العالم وسياقاته، فالركح يا سادة شعاره "كن أو لا تكن" حكر على الأقوياء لا مكان فيه للضعفاء والجدير فيه بحمل وسام البطولة الحضاري من يثبت وجوده لا استسلامه.
يقول ماجد الغرباوي "ثم إن المثقف الإسلامي وعى الإسلام وعيا حضاريا اعتمادا على التراث وليس منفصلا عنه، من دون أن يعيش وهم الماضي، بل ينطلق منه لبناء المستقبل، فيستمد منه القيم لتكون أساسا في ممارساته الاجتماعية والسياسية، فلا يشعر بالغربة من القيم السائدة، وإن كان من ضمن اهتماماته إلغاء ما هو غريب عن قيم الإسلام والإنسانية" (14). فهذا هو جوهر الإسلام القائم على الجد والاجتهاد والوعي العميق بالتراث ودوره في الحراك الاجتماعي القائم على التعدد والتنوع وهو ما يفتح اشكاليات قيم التسامح والتعايش على مصراعيها وهنا يبرز الخطاب الواعي للمثقف الإسلامي الذي يحسن التعامل مع هذه الإشكاليات.
إن تكريس مفاهيم وقيم التسامح والدعوة إليها منهج متأصل في نصوصنا القرآنية وسيرتنا النبوية وكان للمثقف الإسلامي الواعي الدور البارز فيه وفي هذا تحدث ماجد كثيرا عن فكرة التعددية الثقافية وفق الرؤية الإسلامية التي تختلف اختلافا كليا عن مثيلتها الغربية. فالتعددية الثقافية وفق النظرة الغربية كما يرى ماجد الغرباوي "قامت باختزال الدين إلى مجرد تجربة روحية باطنية بمعزل عن الحياة يستطيع أن يعيشها كل إنسان، وفصلت ما بين الشريعة والدين" (15) وهو ما يعترض عليه المثقف الإسلامي الواعي وبشدة فديننا يتدخل في كامل تفاصيل حياتنا اليومية بل هو البوصلة التي توجهنا وتسير حياتنا بوعي وتبين لنا سبل التعامل مع الآخر وكيفية التعامل مع اشكاليات التعددية الثقافية التي لطالما أستفاض ماجد الغرباوي بالحديث عنها في مختلف كتبه.
وهو نفس الأمر الذي ذهب له المفكر المصري محمد عمارة بحديثه عن التعددية الثّقافية ودور المثقف في ايجادها حيث يرجع محمد عمارة أصول قيم التعددية الثقافية إلى السنة النبوية بالضبط في ميثاق المدينة المنورة التي اعتبرها عمارة بمثابة "الإعلان الإسلامي عن شرعية ومشروعية التعددية الإسلامية في هذه المساحات من الفكر وتطبيقاته وفي الأدوات اللازمة لذلك ومنها التنظيمات . تلك هي سنة الإسلام التي شرعت وقننت لمبدأ التعددية في الفكر الإسلامي وفي الممارسات الإسلامية منذ صدر الإسلام والتي بناء عليها وتطبيقا لمنهجها كانت تيارات الاجتهادات الإسلامية مصدرا لثراء الفكر الإسلامي على عهد الازدهار الحضاري الذي سبق عصر التراجع والجمود" (16). ولعل هذا يحيلنا إلى تساؤل آخر أكثر عمق هو كيف لنا أن نخرج من شرنقة ذلك الجمود والانسداد التاريخي الذي جثم على صدر الأمة لمدة طويلة جدا خاصة في ظل التخبط الكبير الذي يعاني منه سواء العالم الإسلامي أو العالم أجمع لعل ذلك الترياق نجده في الهدية النبوي في سنة التخلية قبل التحلية، ففي الهدي النبوي يوجد ما يسمى بالتخلية قبل التحلية ومن ثم يتحتم علينا تنقية الجو الاجتماعي العربي والإسلامي من الشوائب التي تشوبه وتعكر صفو عالمية رسالتنا القائمة على التعددية الثقافية والإنسانية، ومختلف قيم التسامح والتعايش بين مختلف الثقافات والأديان كحق انساني مشروع، ومن ثم يأتي دور التحلية فيتم التركيز على بعض الأمور المهمة التي تستلزم منا زرع قيم فرص التسامح والتعايش من تعددية ثقافية ودينية في اطار الأمة الواحدة، علما أن مثقفنا الإسلامي الواعي يملك كل المقومات والأسس لذلك انطلاقا من البوصلة الربانية والهدي النبوي القويم.
ولذلك لما غاب الوعي الحقيقي لدى المثقف بمجريات فقه الواقع فغاب عنا الفقيه الرباني الذي يحسن التعامل مع متغيرات العصر ومتطلبات المعرفة الجيدة بخبايا متغيرات النص أمام الأسئلة الفقهية الجديدة التي تطرحها التعددية الثقافية حيث يقول ماجد الغرباوي "في ظل هذه الظروف تشكيل عقل المسلم، وأعيد فهم الدين من خلال قوالب جديدة، فأصبح الدين مجرد علاقة خاصة بين العبد وربه، لا صلة له بالحياة الاجتماعية. ولما سارت تلك النظرة إلى الفقه، تقوقع في دائرة الفردية، واخذ الفقيه يفكك بين الموضوعات ويفتي بمعزل عن مقاصد الشريعة وغاياتها، ففقدت الأحكام بالتدريج مداليلها الاجتماعية، بعد أن اعتبرت الفرد وحدة مستقلة لا تربطه أي علاقات أو وشائج اجتماعية. بل تطور الحال إلى حد عجز معه الفرد أن يحدد موقفه من بعض القضايا الحياتية المهمة في ضوء الشريعة، لأن الفقيه لم يتصد للفتوى في تلك المجالات" (17) وهنا يبرز لنا ذلك النموذج الرباني الامام الماوردي الذي عرف بمعرفته الشديدة كفقيه بمدينة البصرة المعروفة لتعدديتها الثقافية وتواجد مختلف الثقافات بها حيث كان الفقيه الوحيد تقريبًا من يحسن وفي ضوء الشريعة ايجاد الفتوى الملائمة لتلك القضايا العويصة الشائكة.
ولذلك فإن مسؤولية المثقف الإسلامي اليوم كبيرة تجاه المنظومة الفكرية الغربية التي تروج لنوازع العداء ونشر قيم التطرف من مثل قول برنارد لويس: "إنه من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية الإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية، ولا داعي لمراعات خواطرهم أو التأثر بانفعالاتهم وردود الأفعال عندهم، ويجب أن يكون شعار أمريكا في ذلك، إما أن نضعهم تحت سيادتنا أو ندعهم ليدمروا حضارتنا" (18)
أمام هذا الخطاب الشديد العدائية فإنه يتعين على المثقف العربي والإسلامي العمل من أجل تغيير تلك الصورة النمطية لنا تجاه الآخر الغربي وإزاحة الغشاء الذي يعمي بصيرتنا عن انماط الاستعمار الجديد الساعي إلى نشر الفوضى بأوطاننا وجعلها معادلا موضوعيا لكل ما يمت للهوية الإسلامية بصلة .
فالخطابات الثقافية الغربية التي راجت أثناء وبعد ثورات الربيع العربي تكشف عن تلك الرسائل التي تمرر من خلالها تلك النظرة الفوقية المشبعة بالمركزية الغربية Central Western التي رسمها الاستشراق التقليدي، ويعمل الاستشراق الجديد على ترسيخها حاليا، لترتسم في أذهاننا بأن خلاصنا مرتبط ببرنارد ليفي ومن قبله لورنس العرب... وغيرهم، وكأن مجتمعاتنا العربية لا تتعلم من التاريخ، فإذا بنتائج ذلك انتشار رهيب لخطابات التكفير وشيوع الخراب والدمار بالكثير من هذه الدول، ولعلّ هذا ما جر المفكر الفلسطيني الأمريكي إلى القول في كتابه "تمثيلات المثقف": "من المهام المنوطة بالمثقف أو المفكر أن يحاول تحطيم قوالب الأنماط الثابتة والتعميمات الاختزالية التي تفرض قيودا شديدة على الفكر الإنساني وعلى التواصل ما بين البشر" (19) .
وبعودة قليلة عبر الزمن إلى الوراء بالضبط إلى أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 ذاك الحادث الذي أحدث بلبلة كبيرة بالعالم وغير مجريات وموازين كثيرة بالعالم وزادت من حدة الصراع بين الإسلام والغرب فانتشرت الإسلاموفوبيا إلا أنها علمتنا ان التعايش أمر ضروري ومطلب ملح لدى كافة الأديان وفي هذا يقول ماجد الغرباوي "نبوءة هنتنغتون فهي وإن قامت أساسا على رؤية لتاريخية الصراع بين الحضارات، إلا أنها انتهت بالعودة إلى الدرس الذي ينبغي أن نتعلمه من التاريخ، لابد من تعايش بين الحضارات، وفهم أعمق للفروض الدينية والفلسفية لكل منها، ودعوة لتحديد العناصر المشتركة بين الحضارات، تمهيدا للتعايش والتواصل الذي لا بديل له. إنه لدرس بليغ أن تنتهي أعتى النظريات التي تؤصل للصدام إلى التأصيل للتعايش وتحقيق القدر الأكبر من الوئام" (20).
ولذلك لابد على المثقف الإسلامي الوعي نشر اهمية منح فرص التعايش بين الأديان وتبني روح التسامح لدى المجتمعات المختلفة مهما وصلت حدة تلك الاختلافات فالتسامح tolerance يعني الاستعداد الذاتي لاتخاذ الموقف المتسامح دون أيه ضغوطات أو اضطرار، لا يمكن اعتبار التسامح فضيلة إلا عندما يمكن للشخص ألا يكون متسامحاً. فهو قريب من مفهوم "العفو". والقول المعروف "العفو عند المقدرة من شيم الكرام" يشير إلى المقدرة على العفو، وليس في مقدرتنا أن نتحدث عن موقف متسامح في تراثنا الإسلامي في حال شخص يضطر، وهو مضطهد وفي موقف ضعيف، أن يتحمل الآخرين، وهذا الشخص الذي يتحمل الظلم فإنه، في حال الضرورة ووفقاً للعرف الاجتماعي، له الحق في المعارضة والحق في الدفاع عن نفسه في وجه الاضطهاد والتمييز العنصري.

خاتمة:
من خلال ما طرحناه آنفًا في ورقتنا البحثية هذه من إشكاليات وتساؤلات حول أحد أهم اشكاليات الفكر الاسلامي المعاصر التي تشتغل على خطابات قبول الآخر في تراثنا الإسلامي والتي عمل المفكر ماجد الغرباوي على ايجاد السبل الكفيلة بحلها، وسعيًا منا لإيجاد الحلول المناسبة للوقوف في وجه هذا التسونامي الاستعماري الفكري الجديد إن جاز التعبير الجارف للهويات الدينية والثقافات المتنوعة بوطننا العربي الإسلامي تحت أغطية كثيرة تختزل معادلة الصراع الحضاري العالمي، نطرح في خاتمة مقاربتنا هذه بعض الأفكار والتوصيات التي نرجو أن تسهم في ترميم التصدعات الجاثمة على الخارطة الهوياتية للتنوع الطائفي والديني والثقافي بوطننا العربي، لتحقيق سبل انعتاقنا من مد المركزية الغربية المحرضة على العنف والإرهاب والتكفير وويلاته، وإرساءً لدعائم سبل تحقيق التعايش الثقافي والديني وفق المنهج الإسلامي الصحيح الذي بينه محمد عمارة، نطرحها في النقاط التالية:
1- ارساء قواعد التعايش السلمي وتعلم سُبل التّعايش بين الثقافات والأديان المختلفة لن يكون برفع الشعارات الزائفة، وإنما يتحقق ذلك بتضافر جهود جميع الأطراف داخل العالم الإسلامي باستخدام لغة العصر وأدواته في نشر الفكر الاسلامي الوسطي، وتفعيل مؤسسات المجتمع المدني المختلفة، ونشر ما يحث عليه الدين الإسلامي من قيم التسامح والتعايش بين المذاهب، خاصّة في المناهج التعليمية تعليمًا وتربية لهم على اتقان فن حقوق الانسان، تحت اشراف مختصّين في المجال وليس مجرد درس يتم إلقاؤه وفقط لتنتهي المهمة عند ذلك، فالأمر أكثر من ذلك بكثير.
2- من الضّروري بعث سبل تجديد الثّقافة العربية خاصّة الخطاب الديني، وتفعيل دوره في الحفاظ على الهوية العربية الإسلامية بجميع طوائفها بعيدًا عن جدل التعصب للعرق أو المذهب...الخ، وقوفًا في وجه الخطابات الفلسفية الجديدة المغلفة بقيم الاستشراق ذات الطابع الاستعماري الجديد، وهذا كله تأسيسًا لنوع جديد من الاستشراف المستقبلي لأمة اسلامية جديدة ولدت من رحم الانبعاث الحضاري الإسلامي القويم، بعيدًا عن الصراع الديني المدعم من أطراف خارجية تكن الحقد والكره لكل ما يمت للإسلام بصلة.
3- لقد أنتجت فلسفة ما بعد الحداثة انسانًا غربيًا ثاناتوسيا، مخربًا للعالم ناسفًا للقيم حقوق الانسان وشتى أنواع التعايش الثقافي و الديني السلمي القائم على مبدأ قبول الثقافات والأديان ضاربًا بكل ذلك عرض الحائط، ومرسيًا بدل ذلك مفاهيم جديدة من قبل: الهدم، التشظي، المركزية الغربية، الإسلاموفوبيا...إلخ، ساعية إلى نشر هذه المفاهيم وترسيخها في الأذهان، تحت غطاء وأقنعة مختلفة تختزل معادلة صراع الأديان بمختلف أبعادها.
4- تعتبر أحداث 11- 09- 2001 بمثابة النبوءة التي أكدت نظرية صراع الحضارات الهنتنغتونية والتي اتخذت منها الولايات المتحدة الأمريكية مطية لشحذ الهمم وتفعيل الحراك العالمي ضد الهوية الثقافية الاسلامية، وهو ما جعلها تقرع طبول الحرب معلنة المعركة ضد محور الشر كما قال جورج بوش آنذاك، لتعلن بعدها عودة ما سمي بالحروب الصليبية من جديد ونتائج ذلك ماثلة أمامنا في كثير من الدول لعل على رأسها العراق وسوريا حاليًا من انفراط كبير لمد الصراعات الأيديولوجية المفتتة لكيان الدول والناشرة للفتن الطائفية، التي أصبحت تفتك يومًا بعد يوم بقيم التعددية الثقافية للأمة العربية والإسلامية .
5- فرق كبير بين نظرة الفلسفة الغربية الوضعية في نظرتها لقضية التعددية الثّقافية ووجهة نظر الهدي النبوي الذي بينه محمد عمارة في التأسيس لهذا الحق المشروع فالقوى الغربية انطلقت من اكراهات حتمتها عليها الشعوب ما اضطرها لوضع ميثاق عالمي لحقوق الانسان منها حق التعدد الثقافي و الديني، فضلا عن السياسات الاستعمارية في الاتخاذ من هذه الفلسفة مطية للسيطرة على الشعوب، اما الهدي النبوي فقد كان امرا تلقائيا تلبية لنداء الفطرة فضلا عن تنفيد أمر رباني صالح للتطبيق في كل زمان ومكان على اختلاف الثقافات وتنوع الأديان.
6- العنصرية والتفرقة بين الأديان والشعوب والأعراق والثّقافات في الدول الغربية نابع من فلسفة عنصرية متأصلة في الفكر الغربي بداية بأفلاطون وصولا لفوكوياما و هنتنغتون وغيرهم الكثير ترى أن الانسان الغربي أسمى وأعرق ثقافة وأرفع دينا وهو ما جعل العديد من الفلاسفة الغربيين المنصفين أمثال جان جاك روسو وايريك فروم وروجيه غارودي ونعوم تشومسكي... يوجهون نقدهم اللاذع لما وصلت له الحضارة الغربية من عنصرية تجاه الدين الاسلامي فهذا الأخير - نعوم تشومسكي- يعتبر أبرز المفكرين الذين يقفون في وجه السياسات الغربية التي تتخذ من فزاعة حفظ حقوق الأقليات الدينية والثقافية لتقسيم الشرق الأوسط وتفتيته مقيمة شرق أوسط جديد يخدم مصالها وفقط.
7- لابد من تضافر جهود جميع الدول العربية الإسلامية سواء على مستوى الحكومات أو على مستوى الشعوب، وتُحدث فيما بينها تعاون وتنسيقات عالية المستوى، وتكثيف الجهود أكثر على مستوى النخب الثّقافية بما أنها فئة تنويرية بإقامة مؤتمرات وندوات للتباحث في سبل بعث الهدي النبوي في نظرته لفكرة التعددية الدينية والثقافية، إلى جانب العمل على دعم منظمات المجتمع المدني والعمل على تغلغلها داخل النسيج الاجتماعي للمجتمعات العربية والإسلامية حتى تنتشر التوعية أكثر بمخاطر الفتن الطائفية وأثر ذلك على الهوية الإسلامية ومدى تماسك المجتمع تجنبا للانزلاقات الوطنية نحو العنف والدموية.
8- انتشار دواعي حوار الأديان وتمازج الثّقافات وتلاقح الحضارات والمعرفة الكونية...إلخ، كلها تقريبًا صنعت لأغراض سياسية بحتة ساعية إلى إحكام السيطرة على العالم، ونشرًا للنموذج الثّقافي الأمريكي، بدعوى أنها هي الأجدر بقيادة العالم كما أعلن عن ذلك صامويل هنتنغتون على اعتبار أنها ثقافة مركز القوة في العالم، فهي مجرد شعارات رنانة زائفة مزركشة بصورة بهية من الخارج، في حين هي انتهازية استعمارية من الداخل.

بقلم الاستاذ الباحث: عباس أعومري - الجزائر- باحث أكاديمي
.......................
* ورقة مشاركة في المؤتمر العلمي التاسع للنهوض بالبحث العلمي خطوة أساسية في بناء العراق الموحد. تحت شعار: "النهوض بالبحث العلمي خطوة أساسية في بناء العراق الموحد"... 2-3 شعبان 1439 هـ 17-18 نيسان 2018م، كلية المعارف الجامعة، كليةٌ أهليةٌ عراقيةٌ، بعنوان: (التّسامح وفرص التّعايش بين الاديان والثّقافات بين الواقع والمأمول.. دراسة نقدية في فكر ماجد الغرباوي.)
...............................
الهوامش
1 - ماجد الغرباوي :اشكاليات التجديد - سلسلة قضايا إسلامية معاصرة-، دار الهادي للنشر والتوزيع، ط1، 1421ه، 2001م، بيروت، لبنان، ص 37.
2 - مالك بن نبي: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، دار الفكر، سوريا، ط9، ص4 .
3 - المرجع نفسه:ص42.
4 - http://www.almothaqaf.com/c/c1d-2/925135
5 - ماجد الغرباوي: الضد النوعي للاستبداد "، اصدار مؤسسة المثقف العربي، نشر العارف للمطبوعات، ط1، 2010م، ص 74- 75.
6 - سورة الحجرات: الآية 13.
7 - إليكس ميكشيللي : الهوية، ترجمة علي وطفة، دار الوسيم للخدمات الطباعية، دمشق، ط1، 1993. ص 15.
8 - التسامح ومنابع اللاتسامح - فرص التعايش بين الأديان والثقافات-، الناشر الحضارية للطباعة و النشر، ط1، بغداد، العراق، 1429ه- 2008م، ص60.
9 - المصدر نفسه.
10- المصدر نفسه.
11- البخاري (3383)،كتاب أحاديث الأنبياء باب قول الله تعالى:{لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين}، ومسلم (2378)، كتاب الفضائل، باب من فضائل يوسف.
12- "فتح الباري" (6/529).
13- "شرح النووي لصحيح مسلم" (15/135).
14 - ماجد الغرباوي: اشكاليات التجديد، مصدر سابق. ص67- 68.
15 - ماجد الغرباوي :اشكاليات التجديد، مصدر سابق، ص 67.
16 - ماجد الغرباوي: الضد النوعي للاستبداد "، مصدر سابق، ص 152- 153.
17 - محمد عمارة : http://klmty.net/472766-%D8%AF-
18 - ماجد الغرباوي : اشكاليات التجديد، مصدر سابق. ص 110.
19- عبد الحكيم منصور: حكومة العالم الخفية - الماسونية والثّورات العربية بين الحقيقة والافتراء- دار الكتاب العربي، القاهرة، 2012، ص242.
20 - نجيب الحصادي: جدلية الأنا والآخر، الدار الدولية للنشر والتوزيع، ط1، القاهرة، 1996. ص 56- 57.
21 - ماجد الغرباوي: التسامح ومنابع اللاتسامح - فرص التعايش بين الأديان والثقافات-، مصدر سابق ص9.

المصادر
1- القران الكريم
2- عبد الحكيم منصور / حكومة العالم الخفية / الماسونية والثورات العربية بين الحقيقة والافتراء/ القاهرة 2012
3- ماجد الغرباوي / اشكالية التجديد / دار الهدى للنشر / ط1 / 2001 : بيروت
4- ماجد الغرباوي / الضد النوعي للاستبداد / مؤسسة المثقف العربي / دار المعارف للمطبوعات /ط1 2010
5- مالك بن نبي /مشكلة الافكار في العالم الاسلامي / دار الفكر / سوريا /ط9
6- ماجد الغرباوي / منابع التسامح واللا تسامح / فرص التعايش بين الاديان والثقافات / الدار الحضارية للطباعة / ط1 بغداد 2018
7- نجيب الحصادي / جدلية الانا والاخر / الدار الدولية للنشر والتوزيع /ط1 : القاهرة 1996
8- اليكس ميشكيللي / الهوية / ترجمة علي وصفة / دار الوسيم / دمشق ط1 / دت / 1993

السبت، 26 مايو 2018

مشروع نهضة (5).. من الاعتبارِ إلى التكافل



لقد حبا الله سبحانه وتعالى الوطن العربي بشريحةٍ واسعة من الشباب المفعم بالقوة والنشاط، ومع الأسف قُدّر للعديد منهم أن ينشؤوا وسط بؤرٍ مشتعلة إما بصراعات سياسية قاتلة، أو بأزمات اقتصادية خانقة، أو بمشاحنات عنصرية بغيضة، جعلتهم يتخبطون بين مطرقة الهجرة والأمية وسندان المعاناة من أفقٍ مسدود واعتبارٍ مفقود، فلو أُحيطوا بقليل من العناية وأُديروا بشيء من الحنكة والدراية لصنعوا العجائب والغرائب، ولو تلقّت بعض الفئات المنقطعة منهم عن الدراسة تكويناً بسيطاً في إحدى المجالات التطبيقية لانطلقتْ في الإنتاج والعطاء بشكل مباشر دون تأخير، ولسارت بخطى ثابتة نحو تحقيق أحلامها الشخصية ورسم معالم نهضة عربية منشودة.

الجمعة، 25 مايو 2018

نووي أمريكا أم نووي إيران


لقد بات الحديث الدولي في الآونة الأخيرة منصباً كثيراً حول النووي، من نووي إيران، إلى نووي كوريا الشمالية، ولا أحد يملك النية أو الجرأة للحديث عن نووي أمريكا وقبلها إسرائيل، رغم أن الدولتين تصرحان علانية أمام الملأ ووسائل الإعلام بامتلاك ترسانة نووية عتيدة، وكأن نووي إيران وكوريا الشمالية ليس هو نووي أمريكا وإسرائيل.
إن الخليج برمته يركز على أسلحة إيران ويبدي رفضاً قاطعاً لسعي هذه الأخيرة تأسيس قاعدة نووية خاصة، بل ويبذل طاقة كبيرة وينفق أموالاً طائلة في سبيل ذلك، بيْد أن إسرائيل التي تتموقع في قلب العالم العربي تمتلك المئات من الصواريخ القابلة لحمل رؤوس نووية، ورغم ذلك لا يُبدي العالم العربي أيّ اعتراض على ذلك، وهو الذي دُكَّت أراضيه دكاً في لبنان وفلسطين بالطائرات العسكرية الاسرائيلة في حين أن إيران لم تفعل ذلك، وأبادت حليفتها أمريكا  من قبل الآلاف من العراقيين الأبرياء وجوعت الملايين من الأطفال منهم، في حين أن إيران لم تفعل ذلك، فالأجدر بنا أن نضع الخطر الأمريكي والإسرائيلي في الحسبان، وترمب ليس موضع الثقة، ولا مصدر الأمان، حتى نتتبع سياساته الماكرة، فقد يحرق الخليج والعالم العربي عن آخره لو مست شعرة واحدة من إسرائيل، ولنا في هيروشيما خير عبرة، ولا أظن أن إيران مستعدة للدفاع عن تل أبيب في حال تعرضها لهجوم عربي، إنما أمريكا حتماً ستُبدي ردَّ فعل، وستضرب كل العلاقات والاتفاقيات الموقعة مع الجانب العربي عرض الحائط.
إن إيران لها سياساتها العدائية في المنطقة، هذا لا ينكره متتبعٌ للشأن السوري واليمني والعربي بشكل عام، لكن المنطق يُحتّم علينا أن نتقيَ على الأقل شرّ القادر على المقدور عليه، وألا ننساق وراء سياسات غبية ستجر علينا الويلات بما لا شك فيه، وإنْ كانت إيران قد تمكنت من مد نفوذها في الأراضي العربية فهذا من تخاذلنا، وفشلنا في تحديد العدو الحقيقي، وجعْل مصيرنا بيد من يتلاعبون بمصائر الأمم ويضحكون عليها. 

الخميس، 17 مايو 2018

فادي أبو صلاح



ما يحصل في حياة الفرد منا من ألم وضيق، لا يمكن لنا أن نسميه ألما وضيقا إذا التفتنا قليلا إلى ما يكابده الفلسطينيون من الأهوال والمتاعب والدموع، وما يعيشه هؤلاء في نفس الوقت من سعادة وشعور بالفخر والإنسانية بمجرد إلقاءهم الحجر على المحتل الغاصب، لا يمكن لنا بأي حال من الأحوال أن نضعه في نفس الكفة مع ما نسميه نحن سعادة وحبور، فآلامهم لا نستطيع الصبر على ذرة منها، وسعادتهم بصنيعهم لا يمكن لنا أن نبلغ ولو درجة منها..هو ألم ليس كالآلام، وسعادة ليست كالسعادة.

الثلاثاء، 15 مايو 2018

عيوننا عليك تدمع كل يوم


عيونُنا إليك يا قدسُ ترحلُ كل يوم كما قالتْ فيروز في مقطوعتها الشهيرة، ويبدو أننا لا نملكُ سوى النظر إليك والتأمل في صُوَرك بقلوب تنزف وعيون تدمع بعد أن ضاع كل شيء وأصبحت الصلاة في كنفك وتحت ظلك حلمًا من الصعب أن يتحقق اليوم مع هذه الظروف القاسية. فبعد أن أحكمتْ إسرائيل قبضتها على مسرى الرسول الكريم وأولى القِبلتين وثالث أقدس بقعة على وجه الأرض أغضبها ما تبقى من أمتار معدودة ما زال المصلّون يضعون عليها جباههم للصلاة فآثرتْ إلا أن تصادرها وتفرض على كل من يتجرأ الاقتراب من المسجد الأقصى أن يخضع لتفتيشٍ دقيقٍ مذل في أبشع صور إهدار كرامة المواطن الفلسطيني والعربي بشكل عام، وعمّا قريب سيصبح مجرد النظر إلى قبّة الصخرة من أسطح المباني المجاورة أو نوافذها جريمةً يُعاقبُ عليها القانون الإسرائيلي بشدة، بل ستعتقل آلةُ الحرب الإسرائيلية كل من يهتف باسم القدس أو تنطق شفتاه بحروفها، وعمّا قريب كذلك إذا بقي الحال على ما هو عليه من الذل والتقهقر فلن يشدَّ حجّاج بيت الله الحرام الرحال إلى مكة المكرمة أو المدينة المنورة فيما يبدو إلا بتصاريح دخول إسرائيلية، هذا إن سمحوا لنا بالدخول أصلًا، كيف لا وقد تحولت القدس الشريف إلى رمزٍ للهيمنة الإسرائيلية، ففيها البرلمان أو الكنيست، والمحكمة العليا، ومقر رئيس الوزراء، والجامعة العبرية، وبعد أن كان الحجاج في أيام العز يفدون على القدس من كل أقطار الأرض لصلاة ركعتين تبرّكًا بزيارتها ويتجولون في أزقتها وأحيائها المزينة بعبق التاريخ ونقاء الانتماء، يقتنون لأنفسهم ولذويهم تذكاراتٍ للمكان والزمان، أصبح الوافدون إليها من الغرباء الأجانب، يقصدون المُتحف الإسرائيلي أو حديقة الحيوان الكتابية ليستكشفوا في زيارتهم هذه تاريخًا مشوّهًا وحكايات مُختلقة لا يُحسّونها بقدر ما يَشعرون بحرارة الانتماء العربي للمكان ويستنشقون نسائمه المقدسية المهودة الضاربة في عمق التاريخ والجغرافيا، فالأزقة فلسطينية، والجدران فلسطينية، والأرض كذلك، والسماء تشهد على ذلك.
قد يلجأ البعض إلى البكاء والنحيب وهو يشاهدُ جروح القدس الغائرة تنزف دمًا يومًا بعد يوم، دون أن يُحرّك العاجزون ساكنًا، لكن القدس في الحقيقة هي من تبكي علينا، على حالِنا الذي وصلناه وذُلّنا الذي شيّدناه بسواعدنا وإرادتنا الكاملة، تَهون عليها مُصيبتها وهي ترى مصائبنا الكبرى تتوالى تباعًا لتنسج خيوطها السامة بيننا، وتتغلغل في شرايين الأمة العربية لتُشتّتها وتُنهك قواها وتجعلها لقمةً سائغة بيد الأعداء، بعد أن أصبح القتلُ من أولى اهتماماتها، وعلى رأس أولوياتها، وبات الطريقَ الأمثلَ لبلوغ الجنة من بابها الواسع، وهكذا فإننا نقتربُ شيئًا فشيئًا بخطوات جريئة نحو العهد الحجري، أو بمعنى آخر نحو التدمير الذاتي، بل سنصير لا محالة إلى عهد أكثر تحجّرًا من سابقيه، نهدرُ طاقاتنا هباء في خلافاتٍ تافهة، وننفقُ أموالنا جزافًا على خصومنا لنفتحَ المجال أمامَهم أكثر كيْ يُواصلوا مُخطّطاتهم بكل ثباتٍ وثقةٍ في النفس.
حاضرُ القدس يعيش اليوم أحلك فتراته وأصعبها، مع عدوّ غاشم مستبد لا يعرف الرحمة ولا تُغويه المليارات التي تؤول إليه من طريق آخر غصبًا عنا، وحالُنا عامة لا يختلف عنها في شيء، فحين تسعدُ القدسُ يسعدُ العالم العربي، وحين تحزنُ يتفرّقُ الحزنُ على كل رُبوعه، فالقدسُ قطعة منا بمثابة القلب من الجسد، أو النبض من القلب، لن يصلحَ أمرُنا ويستقيمَ حالنا حتى يتحرر آخر شبرٍ منها فليس أمام قدرة الله مُحال.
بعد أن كانت الدائرة تضيقُ وتتّسع تثورُ وتنكمشُ على طول فتراتِ الصراعِ العربي الإسرائيلي منذ نكبةِ فلسطين مرورًا بنكسة 67 وصولًا إلى تدنيس شارون لباحات المسجد الأقصى، أصبحت اليوم مُتسعةً رحبةً كما لم تكن من قبل، في نفس الوقت الذي تُمنعُ فيه الصلاة ويُحجبُ الأذان وتُدنَّس أرضه الطاهرة بقطعان جنودِ الاحتلال في تضخيمٍ متواصلٍ لحجم التنازلات المريرة، ومع ذلك أصبحت إسرائيل من المُقربين، تنتمي لحلقة الأصدقاء وشلّة الأحباء أصحاب الأهداف المشتركة والمصير الواحد المناهض للإرهاب في العالم، فنشطت العلاقات العربية الإسرائيلية حتى انتُزعتْ منها صفةُ العار والدّونية، وأصبح التطبيع الاقتصادي والثقافي على مرأى ومسمع من الجميع، متناسين ما فعله الكيان الصهيوني بنا من تهويدٍ قسريٍّ لمقدساتنا وتنكيلٍ وحشي ومذابح مروعة تشهد عليها كل قطعةٍ من أرض فلسطين السليبة، وبعد أن كان المستشهدون في سبيل الله دفاعًا عن الأقصى يُدْعَونَ بالشهداء وهم أحقّ بها، أصبحوا اليوم يُنعَتون بالقتلى على وسائل إعلامنا العربية بل ويُتهمون بالإرهاب والعنف وكأنهم هم الجلّاد وليس الضحيّة، من أجل هذا تبكي علينا القدس، لا على نفسها، وتدمع مآذنها وكنائسُها لأن مدينة السلام لم يَعُدْ يربطها بالسلام رابط، بل انشغلوا بنشره في مكانٍ ما من العالم بالطريقة التي يرَونَها أنفع لمصالحهم، وهي أولى بأن تُلقَّبَ مدينة الآلام والأحزان، وخذلان الأقرباء والخلان، وآخر معقلٍ لما تبقى لنا من ذرة نخوةٍ وبصيصِ عزّة وكرامة.
طوبى لمن لمستْ جبهتُه ترابَ القدس وسارت أقدامه بين أزقتها القديمة يُلقي التحيّة والسلام على أسودها ومُرابطيها، طوبى لمن رفعَ يدَه إلى السماء بالدعاء تحت سقف الأقصى وفاضتْ عينه بالدموع بين مصاحفها ومحرابها، طوبى لمن شدّ الرحال يومًا إليها مُحتسبًا صابرًا عينُه على مسرى الرسول وقلبُه يفيض حبًّا وعشقًا لملاقاته، طوبى لمن سالت دِماؤُه وهو يدافع عن حُرمة الأقصى بصدر قوي مقدام لا يأبى الرصاص، طوبى لمن ترك أثر خطواته هناك وقصّ رحلته على أبنائه وأحفاده ليكونوا شاهدين اليوم على زمنٍ أصبح فيه رَفعُ الأذان فوق الأقصى الشريف من أكبر الأمنيات.

الاثنين، 14 مايو 2018

مشروع نهضة (4).. نحو وحدة عربية شاملة



لكنها خطوةٌ صحيحة نحو الأمام، وإجراءٌ صحي يخدم مشروع النهضة ولا يُسيء إليه، والتضحية في سبيل بناء نهضةٍ عربية شاملة ليست مُستبعدة، فهي واردة جدّاً، لكن الفرق شاسع بين أن تُضحي من أجلِ مشروعٍ تجنّدت فيه كل القوى الفاعلة المسؤولة بحيث يُضحي كل فردٍ من موقعه، وبين أن تُضحي أو تُرغم على تقديم تنازلاتٍ وأنت تعلم علم اليقين أنها مؤامرة من المؤامرات كسابقاتها.

الجمعة، 11 مايو 2018

هل_الله_موجودٌ_في_الكنيسة؟


طريق أمامي تمتدُّ على طول النظر، أخطو نحو آخرها الذي لم أبلغه بعد، أنا فوق جسر، الجسرُ فوق نهرٍ عظيم يغلي بالأمواج، الشمس من وراءِ الغيوم تهذي، تراقب دمعتي متى ستعلن هُطولها حتى تَحبس الأمطار، في كل خطوة أقلّب شريطَ الحياة المارِّ على سكة المغادرة، فينقبضُ قلبي كما تَنقبضُ مكابحُ السيارات المتسابقة لتنجوا من زحمة الجسر، وجهي إلى الأرض ورأسي إلى السماء، وعينايَ لا ترى سوى ذكريات المكان، لا سيجارة في جيبي فقد استنفذتُ كل العُلب واقفا منذ أن كانتِ الشمس تُداعب لونَ الفجر، تركتُ حقائبي في مكان ما، مع أنني أحسُّ بثقلها وكأنّني أجرّها جرّا بيدي، ماذا تحملُ هذه الحقائب؟ ولماذا تُلازمني وقد تخلّصتُ منها منذ البارحة؟ في آخر الجسر بدتْ لي كنيسة، منتصبةً هادئةً هدوءا مُطبقاً لا يُسمع في الضوضاء أنينُها وكأنَّ الأرواح الطاهرة هجرتْها، دخلتُها دونما شعور، أريد أن ألقَى في وجهي روحاً مكتملة تُلقي أو لا تُلقي عليّ السلام، مَشيتُ نحو الباب وكأنّي لستُ أنا، هذا أوّل لقاءٍ لي بهذا المَنفى، ولجتُ بحذر، رأيت هنا وهناك جمالاً وضّاحاً ونقوش فنان استوقفتني، ثم سرعان ما دفعني بقوة حبُّ اللقاء، دخلتُ بثقة، دعوتُ الله رافعاً يدي إلى السماء، هل الله موجودٌ في الكنيسة، أجابَني صمتٌ من داخلي، اللهُ موجودٌ في كل مكان.

الاثنين، 7 مايو 2018

مشروعُ نهضة (3).. كيف نهيئ البيئة الصالحة للنهضة؟


إن الإنسان الذي يُعتبر بناؤُه السليم هو الحل الناجع لرسم معالم نهضةٍ عربيةٍ متكاملة، يحتاج إلى بيئة صحية لكي يتناغمَ تطورُه مع مُحيطه وبيئته، فلا يمكن بناءُ إنسانٍ محاطٍ بهالةٍ ضخمة من الظلم والفساد، والمجتمع هو الذي يرسم للإنسان طبيعة حياته، ولا يعيشُ الإنسانُ لنفسه أو بمعزلٍ عن محيطه، إذ لا بد له من أن يتعامل معه بشكلٍ من الأشكال، وهذا التعامل يحمل في طيّاته تأثيراً فاعلاً عليه لا مفرّ له منه، وبالتالي فالتركيز على بيئة الإنسان من أهم مُقوّمات مشروع النهضة العربية.

قائمة المدونات الإلكترونية