الأربعاء، 14 يونيو 2017

ارْحَمُوا القَلَم


من المعروف أن القلم الكائن الأكثر خطورة في العالم، والوسيلة القادرة على تغيير وانتقاد ووصف كل شيء في أي زمان ومكان، فلا حدود لحروفه، ولا قوة تقف سدا في وجه طوفانه، في استطاعته أن يُقيم دولا ويُسقط عروشا بجرة واحدة كما يقال.. كان وما يزال، العدو الأول لأصحاب السلطة والنفوذ، والملاذ الآمن لهواة المدح والثناء، خُطّتْ به سِيَرٌ، ووُثّقتْ به عِبرٌ، وحُفظَ به تاريخُ الأولين والآخرين، ومُجّدتْ به حِقبٌ، ونُسفتْ به حضاراتٌ، وصِيغتْ اعترافاتٌ، ودُوّنتْ به علومُ الإنسان وأسراره، فلولاه ما كنا لنظفر منها بشيء أو نغرف منها غرفة علمٍ واحدة، فالقلم وجدان الإنسان وكيانه، ومرآة دواخله وأحاسيسه، وسفير عقله وبريد قلبه، فهو المترجم الحذق الذي يستطيع أن يجسد ما يدور في مخيلة الكاتب وينقله كما هو إلى الواقع ليصبح كتابا مخطوطا في متناول الجميع، فضله علينا لا ينكره عاقل أو سابح في أصناف العلوم ودروبها.
غير أنه في عصرنا هذا يعرف القلم من التحقير والتبخيس ما لا تخطئه العين، فقد تحول إلى أداة تلقى من الانتهاك ما تلقاه، وأصبح لا يرجى من ورائه نقل ما يفيد الإنسان في دينه ودنياه، بقدر ما يروم بعض المنتسبين إلى بلاطه، أو كما يزعمون، النبش في قضايا تافهة، وصراعات بغيضة، طلبا للشهرة وانقيادا وراء أوهامهم الخداعة، فحادوا بسلاحهم هذا من طريق النقاء والبناء إلى طريق الهدم وانتهاك حرمة الأعراض. ناهيك عن كونه صار حبيسافي يد ثلة من أولئك الذين لا يترددون لحظة في توقيع صفقات يتنازلون فيها عن التاريخ والجغرافيا بدم بارد، يوجهون بها مصائر أمم وشعوب، ويلغون بها مستقبل أجيال وأجيال، أو يصادقون على ضربات جوية لا يُعلم مآلها وحجم كوارثها، ولا أعداد ضحاياها وأشلائها، يوقعون بأقلامهم معاهدات تأتي على ما تبقى من كرامة الإنسان العربي المنغمسة أصلا في الحضيض، دون أن يحرك ذلك فيهم شعرة واحدة، أو يوقظ ضميرهم الميت، فكما يُقال القلم بيد السفيه كالخنجر في يد الطفل..
ومع كثرة أقلام السب والشتم والقيل والقال في زماننا، تحولت إلى اتجاه قائم بذاته له محبوه ومؤيدوه، همه الوحيد كسب أكبر عدد من المتعاطفين، فهناك نوع من القراء لا يتردد أبدا في تصديق كل ما يقرأ، هكذا بلا سبب وجيه، وهذه الشريحة مفضلة إلى حد كبير عند فئة من أقلام أقل ما يقال عنها أنها دخيلة على الميدان، فشلت في ضمان مكانها بين أقرانها وتقديم شيء تنتفع منه العامة، فوجدت نفسها وحيدة في محيط لا يناسبها ولا تناسبه وسرعان ما طُردتْ من صنعتها المتطفّلة عليها، ولكي يذيع صيتُها وتُذكر سيرتُها ولا تَذهبَ أدراجَ الرياح، لا تتردد أبدا مع أول فرصة تتاح لها في أن تتحول إلى بوق مأجور شغله الشاغل تَعقّب زلات الآخرين، واللّهث وراء مواقفهم وردود أفعالهم.
فلا تتوانى عن بث الأكاذيب، والإبداع في فنون وأدبيات الشتم والقذف دون تبصر، وكَيْل الاتهامات جزافا لشخصية من الشخصيات، أو جهة من الجهات، بسبب تبنيهم لفكرة أو موقف، أو اختلافٍ في الرأي والمغزى، فترى كتبا ومجلات ومنابر إعلامية رقمية ومنتديات ومواقع للتواصل الاجتماعي حبلى بمثل هذه الأقلام، بل وللأسف أصبح القارئ العربي المغلوب على أمره لا يتردد البتة في خلق صداقة معها وهي الخالية من أي مضمون أو هدف، فعقل الكاتب في قلمه كما قال الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: عقول الناس مدونة في أطراف أقلامهم.
والاختلاف حق لا يشوبه سوء ولا تحريم، ولا يفسد للود قضية، والانفراد بالرأي ليس من شيم العارفين والمثقفين، بل خلق الله سبحانه وتعالى العقول متفاوتة الإدراك، وفتَحَ أمامَها باب النّقاش المثمر على مصراعيه من دون تعصّب ولا تزمّت، وإذا كان مثقفو هذا الزمان لا يدّخرون جهدا في تنوير العقل العربي وانتشاله من خندق الجهالة والأمية، فهم على قلتهم كنقطة مداد في بحر مديد، يتيهون وسط هذا الغثاء، ولا تكاد تسمع لهم صوتا
رحم الله الكتّاب العظماء الذين أوفوا حقوق أقلامهم فصانوا العهد وامتثلوا الوفاء، وتحرّوا الصدق والأمانة في نقل ما يرونه من باب النقد المثمر البناء، والاختلاف الأرحم بالعباد، والجرح المراد به التطهير والشفاء، عرفوا قيمة الإنسان فألفوا لأجله دررا خالدة، وضحوا بحياتهم في سبيل وهب ما ينفع الأجيال القادمة ويلهب شغفها للعلم والمعرفة، دون السقوط في فخ الحسابات الضيقة، أو الميْل عن نطاق رسالتهم الكونية النبيلة، فاستحقوا بذلك كل التعظيم والاحترام. والفرق شاسع بين ما خطّت أيديهم وما نقرأه اليوم، وبين إحساس يشدّنا إلى ما كتبوا وبينَ شعورٍ يُنفّرنا اليوم مما نقرأ، بين حياة سطروها بمداد الحكمة والفكر المنير، وبين ما يروج اليوم من انحطاط كبير، يضاهي في فداحته ما بلغناه من تراجع اقتصادي وسياسي منقطع النظير.
من هنا أصبح لزاما علينا إن نحن أردنا صقل جيل يعرف قيمة العلم ومكانته، تربية النشء منذ نعومة أظافرهم على تهذيب أذواقهم المعرفية وميولهم العلمية وتلقينهم المهارة المثلى التي بواسطتها يستطيعون تمييز ما يُصنّف ضمن الزاد الحقيقي فيرحبون به أيَّما ترحيب، وما هو سمٌّ فيديرون ظهورهم له ولا يقتربون من نفثه القاتل كلما صادفوه في مسيرتهم المعرفية الطويلة.

المقال على مدونات الجزيرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

قائمة المدونات الإلكترونية