الأحد، 23 أبريل 2017

أزمة الفن السابع بالمغرب


تتربع السينما على عرش الفنون
  باعتبارها النوع الأكثر شعبية وإثارة للجدل، وهي حاضنة للعديد من الإبداعات كالتمثيل والكتابة والتصوير وغيرها، مما جعلها نتاجا حضاريا وقطبا فنيا قائما بذاته، وهي فن يحلق في سماء العالمية، تحاول كشف النقاب عن قضايا شائكة، ودروب حالكة، تميز الحياة الإنسانية المتمادية في التعقيد والوحشية، بالطريقة التي تراها السينما مناسبة لإيصال رسالتها ومؤثرة في المشاهد كيفما كانت مرجعيته وعقيدته، فتعمل بذلك على إحداث نوع من الصدمة، تدفع بالمتتبع إلى إعادة تقييم بعض الأمور، ولفت نظره إلى بعض الظواهر والسلوكيات التي قد لا ينتبه إليها لسبب من الأسباب.
إذا عرّجنا على تاريخ السينما المغربية، سنجد أن حالها لا يختلف كثيرا عن حال باقي الدول الإفريقية  التي تجرع معظمها من نفس كأس الاستعمار الأوربي، حيث مرت بمرحلتين رئيسيتين تمتد الأولى من حقبة الاستعمار وما يتخللها من سياسة الإقصاء والتبعية وكبح جماح الإبداع، نهاية بمرحلة بزوغ فجر الاستقلال وما يكتنفها من محاولات خجولة للتخلص من مخلفات الامبريالية، والانفتاح على خبايا صناعة السينما بنكهة مغربية، فكان للاستعمار وقع غائر على الثقافة والإبداع في المغرب بشكل عام، والسينما ليست بمنأى عن هذا التأثير السلبي، كما يظهر جليا في العديد من الأعمال السينمائية المغربية من عجز واضح في عرض الموروث المغربي خالصا من أي اقتباس.
إن الحس النقدي الذي يمكن أن يصدر من أي شخص عادي يبدي اهتماما سواء بالسينما المصرية أو العالمية، لن يجد عناء بأي حال من الأحوال في رفض أغلب الانتاجات السينمائية المغربية، وتوجيه أسهم النقد اللاذعة لها من باب الغيرة عليها، فكيف يعقل أن تدفع نقودك بعدد أفراد أسرتك الذين دعوتهم إلى قاعة السينما من اجل مشاهدة فيلم مغربي، ثم لا تلبث أن تغادر صالة العرض ممتعضا مما شاهدته، والغريب في الأمر، أن ذلك يحصل مرارا وتكرارا في كل مرة تتخذ فيها مثل هذا الاختيار الخاطئ، وتغامر بوقتك وأموالك، ربما هذا ما جعل السينما المغربية تخفق إلى حد بعيد في جذب جمهورها و كسب ودهم وثقتهم.
صرح أحد المخرجين المغاربة أنه لا يشاهد قطّ أعماله التي أخرجها إلى الوجود ! وكأنه لا يريد لنفسه العذاب، أو بالأحرى تأنيب الضمير، فما الذي دفعه إلى قول ذلك؟
لا شك أن العديد منا تستهويه السينما العالمية، فلا نتردد أبدا -متى أتيحت الفرصة- في متابعة العمل السينمائي الفائز بجوائز الأوسكار، لما نتوقع منه من مستوى إبداعي رفيع، وتصوير مبهر، وتسلسل منطقي وسلس للأحداث، فلا نجد أية صعوبة تذكر في استيعاب فكرة المخرج وفهم رسائله ومقاصده، بل نعيش قصة الفيلم بكل جوارحنا كأننا جزء لا يتجزأ منها، في حين أننا نواجه صعوبة بالغة في فهم ما يدور في رأس المخرج المغربي وفك طلاسم عمله السينمائي المرهق للأذهان، فلا بداية تفتح شهيتك لمشاهدة الفيلم إلى آخر لقطة، ولا نهاية تُبقي فيك ذاك الشعور الجميل الذي من المنتظر أن يتولد مع نهاية أي فيلم. فهل هو إبداع خارق من المخرج المغربي يجعل من الصعب على أي متفرج عادي أن يدرك ماهية الفيلم إلا إذا كان في نفس مستوى فكر وذكاء المخرج؟ أم هو ضعف في الإعداد؟ أم في الإنتاج؟ أم في غياب كفاءات واعدة قادرة على ترك بصمتها في الميدان؟ ماذا بالضبط؟
ومن باب الغيرة على السينما المغربية، فلا بأس أن تضغط على نفسك بعض الشيء، وتواصل عذاب المشاهدة أملا في أن تتضح معالم القصة، أو ينتقل الفيلم من سياقه النمطي الممل وحواره المنفّر، إلى سياق مشوق يأخذك معه لتعيش الأحداث وكأنها حقيقية وليست من نسج خيال المخرج، كما شأن الأفلام العالمية المحبوكة الإخراج. لكنك غالبا ما تُصعَقُ في نهاية مغامرتك ويخيبُ أملكَ حين تشاهد شارة النهاية قد انطلقت
فعلا في الصعود دون سابق إنذار، وأنت لم تع بعد رسالة الفيلم، فينتابك للأسف شعورٌ مشترك تراه في وجوه جميع الحاضرين المحبطين حيثما وجهتَ نظرك.
لا أعتقد أن بناء فيلم سينمائي يتطلب ثروة هائلة لكي يحقق النجاح، ولا أعتقد أن قصة الفيلم البسيطة المفهومة سيرفضها الناس، بل على العكس تماما سيرحبون بها ويحسونها أكثر قربا منهم، لأن الفيلم خُلق للجميع، على اختلاف مستوياتهم وخلفياتهم، فكم من أفلام سينمائية أُنفقت عليها أموال ضخمة، لكنها فشلت فشلا ذريعا في النهاية بل وهجرها الجمهور، وكم من أفلام لم تحض بفرصة تمويل كبير، لكنها حققت نجاحا عالميا اكتسحت به أذواق المشاهدين، إذن، فالقضية تكمن في الإبداع مهما قلت روافد التمويل، وفي عبقرية المخرج الذي من المفترض أن يكون مخرجا بالفطرة وليس دارسا عاديا لفن السينما، يستطيع أن يخلق من قصة بسيطة إبداعا مدهشا، يقدمه في قالب ساحر متكامل الصوت والصورة.
في ظل هذه الحالة المزرية، لا بد من صياغة رؤية جذرية بناءة تعيد لملمة معضلة السينما المغربية المتخبطة في أخطاء بدائية متكررة، تجعلها أبعد ما يكون عن تقديم منتوج سينمائي يلقى القبول والترحيب من الجمهور.


المقال على مدونات الجزيرة

عانس .. أم زوجة ثانية؟

 
متى ستتزوج  فلانة؟ لقد تجاوزت الثلاثين من عمرها.. مسكينة.. جمالها تضاءل.. والتجاعيد بدأت تغزو وجهها، لم يحدث أن تقدم لخطبتها شخص من قبل أليس كذلك؟ مسكينة حظها عاثر.. بهذه العبارات وغيرها تنطلق ألسنة الناس بالوصف والتدقيق واختلاق الأحداث بمجرد اقتراب البنت من هامش الثلاثة عقود دون أن تحمل حول بنصرها خاتم الخطوبة، أو تظهر عليها بوادر القفص الذهبي، فما يكون عليها إلا أن تنصاع لنظرات الناس المريبة، وتشق طريقها نحو بدائل أخرى تحاول بها فرض ذاتها وإثبات شخصيتها في انتظار نصيبها على أحر من الجمر.
وكلما دارت عجلة الحياة، وسحبت معها سنوات العمر إلى الأمام، إلا وقلّت فرص الزواج، وتدهورت الأمور من سيء إلى أسوأ، فتبدأ بعدها مرحلة التنازلات.. رجل بمقاييس وسامة لا تمت بصلة لمن كان يوما فارس الأحلام.. رجلٌ بلا عُشّ زوجية مجهز.. رجلٌ بعمل غير قار أو موسمي.. أجرٌ زهيد.. بدون سيارة.. لا يملك شقة تطل على البحر لقضاء إجازة الصيف.. وما شابه.. ومن ثم فإن السعادة كما رسمتها الفتاة في مخيلتها منذ أول عهد لها بالحب بكل هذه المواصفات تبدأ في التلاشي شيئا فشيئا، وفي نهاية المطاف، قد تجد نفسها أمام تحدٍ صعب، أن تكون زوجة ثانية أو لا تكون، وهو في الحقيقة اختيار لا تُحسد عليه، كونه يجمع بين متناقضين اثنين من الصعب خلق علاقة قرب بينهما، كبرياء فتاة من جهة، وحرصها على بداية حياة جديدة وحمل لقب الزوجة والأم.. من جهة أخرى.
إن ظاهرة العنوسة من الظواهر المثيرة للجدل، فلا تكاد تجد لها تفسيرا منطقيا لكثرة متناقضاتها المربكة صراحة، وسنها متباين من بلد لآخر، ومن بيئة لأخرى، كما تلعب عادات وتقاليد الأسر دورا مؤثرا في تحديد السن المفضل لتزويج فلذات أكبادهم. فتجد مثلا أعلى نسبة عنوسة مسجلة في بلاد الأرز لبنان، ومعروف على هذه البلاد أن اسمها حاضر بقوة كلما ذُكر الجمال العربي بلسان المدح والثناء، بينما سُجّلت في فلسطين أقل نسبة عنوسة، بمعنى أن شبابها مقبل على الزواج بنهم دون تردد، رغم ما يعانيه هذا البلد العربي من حصار خانق وحرب ضروس ضد كل مناحي الحياة الإنسانية تقريبا.
لن تجد أفضل من نيل ود فتاة خليجية.. نعم.. ضربة من ضربات الحظ التي لا تتكرر، وحلم يراود الشباب العربي المُثقل بهموم البطالة مثلما يراوده حلم الهجرة إلى أمريكا مثلا، أو بناء علاقة حب مع فتاة غربية عبر النت.. فالفتيات الخليجيات إلى جانب طيبوبتهن وخلفيتهن الدينية وحرصهن الشديد على اتباع التقاليد والعادات المحافظة، هن أيضا صاحبات سخاء مالي كبير، خصوصا وأن جلهن من أسر ميسورة الحال يُغدقُ عليهن آباؤهن وأمهاتهن بكل ما يشتهينه من مسببات الحياة الهنيئة، فيكن بذلك قد جمعن كل الخصال التي وردت في الحديث النبوي الشريف عن الزواج.
أما في دول أمريكا وأوربا، فالعنوسة تأتي في مراتب متقدمة لأن الزواج في طقوسهم ليس بالقدسية التي يحضى بها في مجتمعاتنا الإسلامية المحافظة التي تؤمن أن الزواج شطرُ الدين، وميثاقٌ عظيم، خصوصا وأن علاقاتهم الاجتماعية تنشط بشكل عادي خارج مؤسسة الزواج، وبالتالي لا داعي لعقد ورقي لا معنى له ولا طائل من ورائه ما دامت كل مظاهر الزواج وتبعاته قائمة. على الرغم من ذلك، ارتفعت أصوات نسائية في السويد مطالبة بالحق في الزواج، لدرجة قيام بعضهن بمسيرات حاشدة تدعو الحكومة إلى إيجاد حلول عاجلة للحد من عنوسة السويديات، بل واضطرت روسيا إلى تقديم تحفيزات مالية مهمة لتشجيع الشباب سواء من داخل روسيا أو خارجها على الارتباط بالروسيات، ولا يخفى على أحد ما يعيشه هذان البلدان من رخاء اقتصادي وجمال إنساني أخاذ يُضرب به المثل عبر العالم. ربما لأن فطرة الإنسان بدأت تطفو على السطح وتزاحم طريقة نظرتهم للحياة من زاوية المجتمع الغربي المتحرر إلى أبعد الحدود، وبدأوا يفهمون أن الزواج بين رجل وامرأة يُفترض أن يقوم على عقد يحفظ الطرفين بعيدا عن أية قوانين وضعية نخرت جوهر الأسرة من الداخل، وجعلتهم يتخبطون في مشاكل لا أول لها ولا آخر.
من هنا فان العوائق الاقتصادية وقضية المال والجمال وما إلى ذلك، لا تفسر بالضرورة ارتفاع معدلات العنوسة في الوطن العربي، ولا حتى في العالم أجمع، ربما يعود الأمر إلى تغيير نمط الحياة، مع دخول الإنسان العربي عصر التكنولوجيا حيث أصبح الإحساس بالزمن منعدما تقريبا، تتسارع السنين وتتعاقب وكأنها تمر مرور الكرام، ومعها تُحرق مراحل الإنسان في وقت قياسي كما تحرق السجائر، ولأن بنات هذا العصر يحبذن إلى حد ما الاستقلالية بالنفس، وغالبا ما تتصادم مكانتهن العلمية والمهنية المرموقة مع وضعية من يتقدمون لخطبتهن فيكون هذا إحدى العقبات الكبيرة أمام زواجهن، وبالتالي استفحال ظاهرة العنوسة بشكل مخيف، والمستقبل كما يبدو لا يبشر بالخير، فالنسب مرشحة للارتفاع في ظل تحلّل الروابط الاجتماعية واقتصارها على وسائل افتراضية جامدة لا تتماشى وطبيعة الإنسان، ناهيك عن تعدد بؤر التوتر التي جعلت من تأسيس أسرة آمنة مستقرة حلما مستحيلا.
وللخروج من أزمة العنوسة وتداعياتها، فلا باس أن يُفتح باب تعدد الزوجات دون قيود مانعة، وأن تُحْملَ عنه صفة العيب والدونية، كما يرى أغلب الدعاة الإسلاميين، خصوصا وان عدد الإناث يفوق عدد الذكور في الوطن العربي، وهو حق كفله الشرع مصداقا لقوله تعالى : فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ، على أن تأخذ الزوجة حقها كاملا من طعام وكساء ورعاية، تحقيقا لمبدأ العدل على القدر الممكن والمستطاع، أما العدل القلبي فهو خارج عن إرادة الإنسان وطاقته يقول تعالى : فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَة.
أمام هذه الوضعية.. فهل تفضلين العنوسة؟ أم تحبذين أن تكوني زوجة ثانية.. ثالثة.. رابعة.. مثلا؟

الثلاثاء، 4 أبريل 2017

الكتاب المقدس



قد يتبادر إلى ذهن القراء الأعزاء أن الأمر يتعلق بالكتاب المقدس عند إخواننا المسيحيين، غير أن المقصود أبعد من ذلك تماما، فما أعنيه هنا بالكتاب المقدس هو ذاك الرفيق الذي تنطوي بين دفتيه صنوف العلم ومناهل المعرفة، هو ذاك الصديق الحميم الذي يصطحبك إلى عوالم مشوقة وآفاق بعيدة يحكي لك قصص السابقين واللاحقين ويكشف لك عن أغوار العالم وثقافات البشرية، فمتى احتجت إليه تجده بجانبك، وفيا لك، غير متخاذل ولا متهاون ولا متردد، يعطيك بشغف دون أن يسأل، يسهر الليل برفقتك دون تعب ولا ملل، يحفظ سرك، يناجيك بصوتك، يدنو منك بحب، يعانقك بود، يمنحك كينونته ويذوب معك في أفكارك ومتخيلاتك، تكلمه فيجيبك، ترفع من صوتك فينحني لك، يسأل عنك يغار عليك، يحترمك في حضورك وغيابك، انه الكتاب خير جليس في الزمان على قول المتنبي، فكم من نفوس ارتقت بصحبته، وكم من أرواح هُذّبت في حضرته، وكم من عقول استنارت بشمعته وكم من قلوب أضيئت بأحرفه، رغم أننا أهملنا صحبته وأدرنا ظهورنا له راضخين لضغوطات العصر ومنصرفين إلى بدائل تقنية أكثر سرعة وسهولة، إلا انه يظل بامتياز شعلة السخاء، ومنبع المدارك ونبراس الباحثين والعارفين، فلا طعم للعلم إلا من زاده، ولا حلاوة للمعرفة والتعلم إلا في مجلسه، تجده شامخا متواضعا يزين رفوف مكتبك ويصطف باقتدار إلى جانب رفقائه ليمنحوك جميعا إحساسا عميقا بالألفة والعشرة في زمن طغت عليه الوحدة والفرقة.

إنه الكتاب، حين تُقلّب صفحاته فكأنك تُسخر كل حواسك وجوارحك لهذا الكائن المعطاء، فتجد نفسك فجأة واهبا له كل شَخْصِك دون شعور، تلغي ماضيك ومستقبلك، لتُمعن النظر في ما يرويه لك بصدق وإخلاص، ولتسمع صدى وجودك يتردد بين أسْطره وفقراته وفي ثنايا أحرفه الرنّانة، كأنه يقول لك أنا جزءٌ منك احضنّي إليك ولا تفارقني قيْدَ أُنملة، فهو الأصلُ والمراد، مهما ابتعدتَ وسرحتَ وأخذتكَ مشاغل الدنيا الكثيرة، فذكراه تنتظرك بحرقة لتلتقي به في لحظة عشق آسرة لقاء الأحبة، تحت سقف مكتبك، أو في زاوية من غرفتك، أو على شاطئ البحر أو على الرصيف أو في المنام، رائحته الأخاذة تنسيك نسيم الربيع بل كل عطور الأرض، وغلافه المتلون يبدو كلوحة خالدة تنبض بالحياة أجمل من كل اللوحات، يبتسم في وجهكَ كأول نظرة، يتمنى الظفر بصداقتك الأبدية بعد أن يُفْصحَ عن عنوانه وجوهره، يَهوى دِفئ أَصابعِكَ حين تَحمله بِرفق، وتَغمُره السعادة حين تضمّه إلى صدركَ أو تُخفيه بين مَلابسكَ خوفا من أن تمسّه قطرات المطر بسوءٍ أو تلسعْه أشعة الشمس الحارقة، أو حين يهزمك النومُ على الأريكة فتراه في أحلامك برداء الحكمةِ والحقيقة.

قال الجاحظ في مدحه :

نعم الذخر والعُقدة هو .. ونعم الجليس والعُدَّة ونعم النشرة والنزهة .. ونعم المشتغل والحرفة ونعم الأنيس لساعة الوحدة .. ونعم المعرفةُ ببلاد الغربة ونعم القرين والدخِيل .. ونعم الوزير والنزيل

أفبعد كل هذا لا يكون مقدسا !

قصة من الواقع 2


صباح بارد كالثلج، والخروج قرار صعب الاتخاذ، لكن لا مفر، علي أن أترك وسادتي وفراشي المتواضع وأبدأ رحلة اليوم الشاقة بدء بزحمة المواصلات نهاية بها.
ارتشفت قهوتي سريعا، وحملت محفظتي المليئة بالأوراق، وجمعت بعض الدريهمات المبعثرة دون عدها وأنا أمضغ ما تبقى في فمي من لقمة أو لقمتين على الأكثر، الساعة تشير حتى الآن إلى السابعة، كل البوادر تدل على أنني سأصل عملي بحول الله متأخرا، المواصلات هي من تملك القرار في النهاية.
خرجت من المنزل بخطوات سريعة، ضممت إلي معطفي بعد أن استقبلتني نسمة باردة وأنا ألتفت يمينا ويسارا لعلي أرمق سيارة أجرة تمر من أمامي، بعد أن أصبح انتظار الحافلة كالعادة أمرا مستحيلا، أحسست بالدوران و أنا أتنقل ببصري اخترق دخان السيارات المتسابقة، فالضباب كثيف يحجب الرؤية ويجعل من الصعب تمييزها، لمحت أحدهم يشير إلي من نافذة السيارة :
* هيا اقترب إلى أين أنت ذاهب؟
* وسط المدينة من فضلك.
* حسنا اركب.
تسللت إلى السيارة بسرعة البرق قبل أن يغير السائق رأيه، وأنا أنظر إلى ساعتي، كانت تشير إلى حدود الثامنة، 45 دقيقة من الانتظار، كم أنا محظوظ اليوم، لعلي سأصل في الوقت المناسب.
اندفعت السيارة بعنف ثم توقفت فجأة، وبقيت على هذا الحال تسير أمتارا معدودة وتتوقف بسبب الازدحام الخانق في هذا اليوم البارد الغائم. التزم السائق الصمت، وكأنه يقول لي "أنا معتاد على هذا الحال لن احرق أعصابي بالتعليق !"
وبدوري لم أنبت ببنت شفة، كان كل همي أن ينتهي هذا الكابوس المخيف بأسرع وقت ممكن، حتى نتمكن من مواصلة المسير، لكن الحال ظل على ما هو عليه، فما كان علي إلا أن استسلمت لمصيري، وندبت حظي المتعثر. أخذت نفسا عميقا وأنا أرفع رأسي المطأطأ حتى أحس السائق بوجودي، فقال وهو يبحث عني من مرآة السيارة الأمامية :
* وكأن العالم كله خرج اليوم، لعلك متأخر عن العمل.
* نعم الساعة الآن تقترب من التاسعة وما زلنا في منتصف الطريق.
* عشرون سنة وأنا على هذا الحال، لم يتغير شيء، ممر وحيد هو ما ينقلنا إلى الشارع الرئيسي، ليس هناك منفذ آخر غيره.
لا يعلم المسكين أنني معتاد بدوري كل صباح تقريبا على هذه المحنة الكئيبة، فعدلت جلستي وكأني اخذ أول تجربة لي هذا اليوم :
* وأين هم المسؤولون عن المدينة؟ أين هي أموال التجهيز؟
رد وهو يحرك رأسه بامتعاض :
* أموال التجهيز؟؟ .. مسؤولين؟؟ ..
ثم أطلق العنان لضحكة من أعماق قلبه، وكأنها منحسرة بين لسانه منذ أمد بعيد.
وفجأة أدار المقود في لمح البصر، وأخذ يوجه السيارة إلى منعطف خطير، محاولا على ما يبدو الخروج من هذا السجن المروري الذي طال أمده.
* ماذا تفعل؟ ألا ترى أن المرور من هنا ممنوع؟
وقبل آن أكمل اندهاشي بما أقدم عليه هذا السائق المجنون، إذا بسيارة قادمة من الجهة المقابلة بأعلى سرعة تنقض علينا كالفريسة محدثة زلزالا قويا في السيارة، تراجعنا إلى الوراء من شدة الصدمة، وأنا ابحث عن أي شيء أتشبث به حتى لا تتكرر صدماتي مع نوافذ السيارة وهي تتأرجح تكاد تحلق في الهواء، وحين ألقت السيارة أوزارها، كانت قوانا قد انهارت تماما ولم نعد نقدر على الحركة. يا له من حادث مروع !
لحسن الحظ لم افقد وعيي، فتحت عيني بصعوبة أتفقد السائق وإذا به محشور في ركن السيارة الأمامي، تحت كرسي القيادة، لا تكاد تميز أطرافه ولا يرى من وجهه شيء.
عم صمت رهيب، إلا من طقطقات أجزاء السيارة ينفصل بعضها من بعض، واقترب منا أحد المارة في تردد خوفا من رؤية مشاهد صادمة، لكن الحمد لله مازالت يداي ورجلاي تتحركان قليلا، يبدو أن احدهم في الخارج يتصل بالإسعاف، وهو يحاول إنهاء المكالمة في أسرع وقت ممكن خشية نفاذ التعبئة، أحاول فهم ما يدور في الخارج من نقاشات ساخنة، وروايات مغلوطة، يحكيها أولئك الذين لم يرو من الحادث شيء، يبدو أنني انزف من جهة ما في جسمي، اشعر بألم فظيع في ساقي وكتفي، وفجأة، إذا بذراع مفتولة قوية تجرني من نافذة السيارة المحطمة دون أن تكترث لعضلات جسمي المتهالكة، سحبتني إلى الخارج، ومعها أيادي مجهولة تحاول شدني بإصرار لإظهار بعض البطولة، وانشغل الجميع بعد ذلك في انتشال السائق من تحت كرسي القيادة، وهو يئن من شدة الوجع. بعدما سالت منا دماء كثيرة، قذفنا كلانا في سيارة إسعاف من العصور القديمة، فحالنا أفضل من حالها بكثير، لا أكسجين ولا تجهيزات طبية ولا رائحة طيبة، ثم وقع ما لم يكن في الحسبان، فسيارة الإسعاف هذه رفضت الإقلاع لعطل ما، وبعد أخذ ورد بينها وبين سائقها، وقبل أن نستسلم للأمر، تزحزح محركها أخيرا، فأخذت نفسا عميقا وأنا أنظر إلى صاحبنا الملقى بجانبي بطريقة عشوائية، انطلقنا أخيرا إلى المشفى كما يبدو، بينما سائقا سيارة الإسعاف فمنشغلان في موسيقى صاخبة، يرددان كلماتها من حين لآخر، غير مباليين بما نعانيه من ٱلام فظيعة، فكأن مفاصل جسمي تنفصل عن بعضها البعض، في كل قفزة للسيارة بسبب كثرة الحفر والمنعرجات المنتشرة على طول الطريق، لكم تمنيت الوصول إلى المشفى ليس للخلاص من أوجاعنا فحسب، ولكن لنضع حدا لهذا العذاب الطرقي المرير.
نطق أخيرا سائقنا المصاب وهو يتصبب عرقا ووجهه مصفر كئيب :
* ٱه أحس بٱلام شديدة في صدري ماذا وقع؟ لا حول ولا قوة إلا بالله. ثم غاب عن الوعي.
أما أنا فبقيت متمسكا في شيء ما أصارع جنون سائق الإسعاف وهو يعرج بنا على الطريق بين أقصى اليمين واليسار. وقفنا أخيرا أمام باب المشفى، نهضت بصعوبة لأطل إلى الخارج عبر نافذة الإسعاف المشققة، يا له من ازدحام شديد، انتظرنا طويلا قبل أن يفتح الباب الخلفي كما تفتح أبواب الزنزانة الحديدية، ثم أخرجنا منها بعنف وألقيت أنا فوق نقالة لا تبرح تتحرك في جميع الاتجاهات، بينما ظل السائق المتوجع ينتظر دوره، دخلنا بهو المشفى فانتابتني صدمة كبيرة، حسبت نفسي وكأنني داخل مشرحة آدمية، الكل ملقى على الأرض دون ستار، يئن من شدة الألم، وامتزجت الآهات محدثة هديرا مخيفا إلى أبعد الحدود، اتجهت كل أنظار المتألمين نحوي وكأنهم يحذرونني من دخول أغوار هذا العالم المجهول، أُلقيتُ هناك في زاوية البهو، وقبل أن ألتفت ورائي مستفسرا عن الأمر، إذا بمن كانوا بجانب النقالة يختفون من الوجود تماما ولم يبق لهم أثر، فبقيت بمفردي أتحاشى نظرات الحاضرين الرهيبة، تحاصرني علامات الاستفهام والتعجب من كل جهة.
كانت الجدران متآكلة تغطيها طبقة واسعة من الرطوبة، ولم أجد من حولي ما يدل على أنني داخل مشفى إلا من بعض الأسرة الحديدية المصدأة، موزعة بعشوائية تظهر من فتحات الغرف المنزوعة أبوابها، وقد تجمعت من حولها عوائل بكاملها، منهم من يتخذ الأرض فراشا له من شدة الإرهاق، ومنهم من يزاحم المريض فوق سريره المتواضع، لا يكاد يجد المسكين أوكسجينا نقيا يستنشقه. سمعت صراخا حادا يبدو أنه من أحد الممرضين يصب جام غضبه على طبيب مختفي عن الأنظار ويردد :
* لا أستطيع تحمل كل هذا.. سئمت هذا الوضع.. سئمت هذا الوضع..
وأخذ صوته يقل شيئا فشيئا، إلى أن اختفى أو بالأحرى أغمي علي فغبت تماما عن الوعي، ولم أعد أحس بما يجري من حولي، سرحت في عالم ٱخر غير الذي أنا في غماره، رأيت فيه أوراقا بيضاء مبعثرة، وطرقا ملتوية متشابكة، وضبابا دامسا يكاد يغطي كل شيء، أسمع صراخ شخص بعيد، يلوح لي بيده من على مكتب خشبي أنيق :
* هيا اقترب لقد تأخرت عن موعد المقابلة أين كنت؟
وأنا أحاول المشي والاقتراب منه دون جدوى، وكأن قدماي منغمستان في الوحل إلى ركبتي، وأنا أحاول.. أحاول .. ثم استيقظت فجأة من حلمي ولا أدري كم من الوقت قضيت على هذا الحال، انتابني قلق شديد وخوف لم أعهده من قبل، وبدا المكان أكثر فوضى وازدحاما، وإلى حدود الساعة لم أتلق أي علاج أو اهتمام يذكر، اختلط غضبي بوجعي فأردت الصراخ ملء فاهي لكن قواي خانتني فلم أستطع إلى ذلك سبيلا، بدأ العرق يتصبب من جبهتي وكأنني تحت عاصفة مطرية، وأنا أتنهد ٱه... ٱه... لقد فوّتُ فرصة اجتياز إحدى المقابلات المهنية المقررة صباح اليوم، كان الحادث مفزعا، لم أكن أتوقع أن تؤول الأمور إلى هذا الحد، أعددتُ للمقابلة جيدا كما العادة، لكن وقع ما لم يكن في الحسبان. معاناة يومية لا تتغير فيها سوى الشخوص والأحداث، ويبقى مضمونها واحد .. رحلة البحث عن أمل..أو بالأحرى عن عمل.. انعكس شعاع ذهبي من نافذة قريبة، وكأنه يطمئنني ويجدد في قوة الاستمرار. شعرتُ بقوة خارقة أستطيع بها
تكسير كل شيء يقابلني، فقدت الشعور بالألم تماما وكأني ما تعرضت لحادثة سير منذ زمن يسير، نهضت من النقالة بكل اندفاع مع اندهاش الحاضرين والمتألمين، ثم هرولت إلى الخارج وأنا أتحاشى قطعة غطاء رثة ما زالت تتمسك بي وأصيح :
* سئمت .. سئمت ..لن أستمر في المغامرة.. لن أركب طاكسي بعد اليوم !

قائمة المدونات الإلكترونية