الثلاثاء، 28 مارس 2017

ماجي ماكدونيل.. أو صانعة الحياة


من أجمل ما يمكن أن يحصل عليه مربي أجيال بعد مسار مهني حافل بالتضحية والعطاء جائزة أفضل معلم في العالم، لما لهذه الأخيرة من شأن عظيم وقيمة شخصية رفيعة المستوى، فأن تتربع على عرش مهنة التدريس كأفضل معلم أو معلمة ليس بالأمر الهين، بل يتطلب نفسا طويلا ومجهودا خرافيا منقطع النظير. غير أن المدرسة الكندية السيدة ماجي ماكدونيل استطاعت بحنكتها ومثابرتها أن تحقق هذا الحلم الفريد وتفوز بجائزة أفضل معلمة في العالم لسنة 2017 في نسختها الثالثة عن جدارة واستحقاق، بعد أن وهبت حياتها في سبيل نشر رسالة التعليم النبيلة، ولم تثنها قسوة المناخ في أعالي القطب الشمالي الكندي من تأدية واجبها -وحلمها قبل كل شيء- على أكمل وجه. 

لم تتحمل قط هذه الإنسانة المتواضعة سماع ما يروج في القطب الشمالي الكندي من حالات انتحار متكررة في صفوف الأطفال بسبب ظروفهم المعيشية الصعبة وانعزالهم عن العالم، فآثرت إلا أن تكسّر حواجز المكان والإنسان وانتقلت للتدريس في مدرسة إيكو سيك وسط منطقة نائية متجمدة تصل فيها الحرارة إلى أكثر من 20 درجة مئوية تحت الصفر، حيث من الصعب جدا على أي رجل تعليم عادي أن يقبل التدريس في مثل هذه الظروف القاسية خصوصا وأن المنطقة لا يمكن الوصول إليها إلا عبر طائرة خاصة. 

جائزة أفضل معلم أو معلمة في العالم والتي نُظمت ضمن فعاليات الدورة الخامسة من المنتدى العالمي للتعليم والمهارات في دبي تمنحها مؤسسة فاردي جيمس التعليمية لأولئك الذين يضحون بالغالي والنفيس من أجل إيصال شعلة العلم والمعرفة إلى كل مكان من كوكب الأرض متخطين بذلك كل العوائق الطبيعية والبشرية، وواضعين نصب أعينهم هدفا ساميا ألا وهو بث الأمل في قلوب أطفال يعيشون أوضاعا إنسانية مزرية ورسم البسمة على وجوههم البريئة.

حظيت ماجي ماكدونيل -أو صانعة الحياة- بتكريم رئيس الوزراء الكندي والأمير البريطاني هاري، وقال رائد الفضاء الفرنسي توماس بيسكيه: "أحببت أن أكون أول شخص في التاريخ يوجه التحية والشكر من الفضاء إلى كل المعلمين في العالم. وتهانينا لك يا ماجي". كما منحها حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم مليون دولار لقاء مجهوداتها الجبارة في إنارة عقول أطفال أيقنت تماما أنهم يستحقون بدورهم فرص التعلم أسوة بأقرانهم في مناطق أخرى أكثر حظا وازدهارا، حيث منحتهم كل الرعاية والاهتمام واقتربت أكثر من معاناتهم اليومية ومشاكلهم النفسية، فاستطاعت بذلك التأثير فيهم بشكل إيجابي وإخراجهم من دائرتهم المغلقة على مدى 6 سنوات كاملة، بفضل خبرتها وشخصيتها المبهرة وطرقها المبتكرَة في التعليم والمعاملة... إن مثل هؤلاء الأشخاص العظماء لا يقومون بهذه الأعمال الإنسانية الراقية حبا في الشهرة والمناصب أو حصدا للجوائز النقدية الثمينة بقدر ما يجدون في ذلك متعة لا يضاهيها مقابل وإحساسا عميقا بالإنسانية في زمن انعدم فيه الإحساس بالآخر.

الجدير بالذكر أن نفس الجائزة لسنة 2016 عادت للمعلمة الفلسطينية حنان الحروب متفوقة على نحو 8000 مشارك في المسابقة أغلبهم من دول يحظى فيها التعليم بمكانة محترمة جدا، ولعل هذه الجائزة القيمة للحروب انفردت بطعم خاص كونها انبثقت من رحم المعاناة بتحد كبير وبإصرار أكبر على فرض القضية الفلسطينية العادلة أمام أنظار العالم.


تحية خاصة لنساء ورجال التعليم في الوطن العربي الذين لا يقلون شأنا ورفعة عن المتوجة السيدة ماجي ماكدونيل، فأغلبهم يستحقون الجائزة ولو رمزيا لما يكابدونه من مشاق وصعاب في الصحاري والمرتفعات، ولا يتوانون أبدا في نكران الذات وتقديم التضحيات الجسيمة في سبيل انتشال الإنسان العربي قدر المستطاع من براثن الجهل والأمية والأخذ بيده إلى بر الأمان.



الأربعاء، 22 مارس 2017

إلى متى هذا الانتحار!


ينتحر سنويا ما يقارب 800 ألف شخص بمعدل شخص واحد كل 40 ثانية حسب إحصائيات منظمة الصحة العالمية، وبذلك يعتبر الانتحار من بين أهم الأسباب المؤدية إلى ارتفاع نسبة الوفيات عبر العالم خصوصا في صفوف الأطفال والشباب من تتراوح أعمارهم بين 15 و 29 عاما.
عربيا  أصبح الانتحار ظاهرة ملفتة تؤرق الباحثين والمهتمين، فلا يمر يوم إلا وتسمع عن حالات انتحار مسجلة هنا وهناك  يقترفها في حق أنفسهم شباب من المفترض أن يكونوا في قمة الحيوية والعطاء، بل ونسمع مرارا وتكرارا عن انتحار أطفال في عمر الزهور بوسائل لا تخطر حتى على بال البالغين.
طالما سمعنا في صغرنا وشاهدنا بأم أعيننا انتحار شخصيات نافذة من العالم المتقدم داخل مكاتبهم أو قصورهم المبهجة، إما بشرب عقار قاتل أو بإطلاق رصاصة الرحمة على الرأس مباشرة، وكم تداولنا بيننا فيديوهات رديئة الجودة توثق بالصوت والصورة عملية الانتحار كاملة كما سجلها أصحابها، وظل الأمر مرتبطا في مخيلتنا الصغيرة بعالم مرعب مجهول المعالم لا يشبه أبدا عالمنا المغمور بالسعادة والمرح كما كنا نعتقد. فهم يضعون حدا لحياتهم هروبا من ضغوطاتهم النفسية أو خسائرهم المالية الفادحة، فيجدون في الانتحار سبيلا مُيسّرا للخلاص من أزماتهم إلى الأبد، ويبقى هذا العمل الشنيع بطبيعة الحال مرفوضا جملة وتفصيلا استنادا إلى تعاليم ديننا الحنيف ودورنا في الحياة المرتبط أساسا بعبادة الله عز وجل والمثول لأحكامه ومشيئته.
كنا قلما نسمع عن انتحار شخص في حينا أو محيطنا، ولو حصل الأمر مع الأسف تجدنا نتساءل في صدمة كبرى كيف أقدم فلان على الانتحار؟ كيف ترك أسرته وعائلته وفارق الحياة؟ كيف هان عليه شبابه وعمره؟ لما لم يقدر عواقب تصرفه الطائش أمام الله سبحانه وتعالى؟ فتجد الكل يصب جام غضبه على المنتحر وقد يغيب عن تشييع جنازته أو يرفض تقديم العزاء لأهله وأقاربه باعتباره كافرا مصيره إلى جهنم والعياذ بالله.
كل هذا عايشته وعايشه غيري في مجتمعاتنا العربية التي تنهل من روافد ثقافية واحدة، والحاصل أن هذه الآفة العربية في تزايد ملحوظ، بحيث صارت نبأ يوميا تستهل به الجرائد الإلكترونية والمكتوبة أخبارها دون أن ترفقها بالأسباب الموضوعية من وراء إقدام الشباب العربي على خيار الانتحار في غياب شبه تام لدراسات معمقة بناءة تتناولها من مختلف أبعادها الاقتصادية والاجتماعية، ولو أُعدت الإحصائيات بشكل دقيق لكانت النتائج مخيفة للغاية، لأن غالبية حالات الانتحار يتم إخفاؤها ونسبها إلى دوافع أخرى كالمرض وما إلى ذلك حفاظا على سمعة العائلة، ولولا الوازع الديني والإرث المحافظ لكانت الأرقام فلكية بامتياز.
الأفق المسدود .. يمكن لهذه الجملة البسيطة أن تلخص إلى حد بعيد  ظاهرة  الانتحار خصوصا في الوطن العربي، والأفق المسدود أنواع، فكما ينتحر الغرب على سبيل المثال كونهم لم يجدو في هذه الحياة ما يستحق البقاء بعد أن ذاقوا ما طاب لهم من خيراتها وملذاتها، نجد أيضا نوعا آخرا يمتلك ثروة لا تعد ولا تحصى تذهب أدراج الرياح كلها في جلسة قمار مشؤومة،  ومنهم كذلك من يعجز عن تسديد ما في ذمته من ديون هي عُشر عُشر ما يملك في حسابه البنكي المفزع لهول عدد أصفاره على اليمين، فيلجأ أخيرا إلى وضع حد لحياته وترك كل شيء وراء ظهره. وبالتالي هناك أوجه عدة لهذا النوع من الآفاق المظلمة الداعية للانتحار قد نجده نحن مثيرا للدهشة والاستغراب!
أما نوعنا في الوطن العربي فمن الصنف المتهالك الذي يستحيل معه الصبر والاستمرارية! لماذا انتحر فلان؟ الجواب الفقر المدقع في القرن الواحد والعشرون عصر العولمة وعلوم الفضاء والتكنولوجيا المتقدمة، نعم فأغلب حالات الانتحار في وطننا العربي مردّها إلى الاضطرابات النفسية والمشاكل الاجتماعية الناجمة عن اليأس والافتقار لأدنى متطلبات الحياة الكريمة، فلا عملَ ولا أملَ ولا ماءَ ولا طعامَ ولا دواءَ ولا حتى أجلا ينهي كل هذه المعاناة، فكلنا يعلم علم اليقين حجم المأساة التي يكابدها شبابنا الضائع بين سندان الانتظار ومطرقة التحديات، غارق حتى أذنيه في الوعود الكاذبة والتناقضات الصارخة والمسرحيات المقرفة على جميع الأصعدة، أفق مسدود بكل ما تحمله الكلمة من معنى، نابع من رواسب تاريخية معقدة في الأصل ومقبل على أوضاع أكثر كارثية، تائه بين عادات وتقاليد نمطية متخلفة وصراعات دينية وفكرية مدمرة، لا يعلم لحاله سبيلا ولا مخرجا، فحتى أمواج البحر ترفضه فتبتلعه إن هو أقدم على الهروب من واقعه إلى حيث يشاء الله في أرضه الواسعة، حتى ولو انتحر هناك على طريقتهم الأنيقة! فبالنسبة له موت مريح سيستمتع به لا محالة. أين الوجهة إذن؟ فحتى الانحراف يتطلب اليوم مصروفا، والفقر لا يعترف لا بأبوة ولا أخوة ولا عمومةٍ ولا صداقة ولا أي شيء من هذا القبيل، أين الحضن الدافئ إذن؟ أفي قدوة أولئك الدعاة الذين يدعون إلى الزهد والتقشف  وبساطة العيش والانصراف عن النعيم والملذات؟ بينما أغلبهم من نخبة ميسورة الحال يعيشون حياة الترف ويستقلون أفخم السيارات.. بسائقيها!  أين الحلم إذن؟ أفي جيل يصبح ويمسي على أصوات المدافع وأشلاء الجثث يُنفق كل طاقته وقوته في الفتك بأخيه من الدين والعروبة؟ أي جيل هذا الذي يعيش أطفاله ما لم يعشه جنكيزخان في زمانه! أكثرهم يعاني التهميش والفقر والمسؤولية المبكرة ولا يعرفون من المدرسة سوى الاسم، بل ويُلقى بهم خارج أسوارها لأتفه الأسباب ليقاسوا وحدهم صعاب الحياة ولم يبلغ سنهم بعدُ عدد أصابع اليد، فالسواد الأعظم منهم يقضون طفولتهم في رعي الأغنام ونقل المياه وحمل الأثقال وقد يستغلون جنسيا من عديمي الضمير. أين الأفق إذن؟ أفي التمييز الطبقي والعنصري الذي يفرق بين أبناء الجلدة الواحدة فترى المناصب السامية في يد شرائح خاصة منهم تستأثر بكل شيء وكأن الدنيا فُصّلت على مقاسهم أو كأنها حِيزَتْ لهم بما فيها، بينما أقرانهم تستنزفهم همومهم وينخرهم داء الجهل والنسيان.
إن التدابير الوقائية المتخذة من طرف الدول المتحضرة  لوقف نزيف الانتحار أبعد كل البعد مقارنة بما يمكن اتخاذه من خطوات في دولنا العربية المتراجعة أصلا تراجعا خطيرا في مجالي التنمية البشرية وحقوق الإنسان، فهم يعملون بجد على إيجاد طرق فعالة للحد من إدمان المخدرات والكحول ونهج علاج سلوكي نفسي في حق من فكروا يوما في الانتحار، ناهيك عن التدابير الوقائية المادية من قبيل مراقبة الجسور ومحطات القطار والمترو والبنايات الشاهقة وما إلى ذلك، كل هذه الإجراءات المكلفة يمكن تجاوزها في بلداننا العربية إن نحن فقط أعدنا الاعتبار للإنسان العربي الأصيل الذي لا يطمع في حياة رغد بقدر ما يطمح إلى عيش كريم آمن يصون حقوقه ويعيد له مكانته في المجتمع. أوقفوا هذا الانتحار! رسالة إلى أولئك الذين يتحكمون في زمام الأمور ولا يتأثرونن مثقال ذرة لخبر انطفاء شمعة فقدت الأمل في الحياة..

المقال على مدونات الجزيرة

الاثنين، 13 مارس 2017

سوريا.. مات الثوار الحقيقيون وبقي تجار المصالح




أين وصلت الثورة السورية هل حققت مبتغاها؟ أين هم الذين رفعوا شعار لا في وجه الظلم والاستبداد؟ أين جحافل السوريين الذين كانوا يبيتون في العراء ويصلون ليلهم بنهارهم رافضين لسياسات بشار ونظامه الجائر؟ أين المظاهرات السلمية المنظمة التي كانت تتناقلها القنوات العربية والعالمية على مدار الساعة مع بدايات الثورة السورية؟ أين الجماهير العربية من كل بقاع العالم التي كانت تملأ الشوارع بالأعلام السورية والشعارات والمسيرات المليونية مساندة لخيار الشعب السوري في الحرية والديمقراطية؟
أين كل هؤلاء؟ لقد اختفوا من الساحة فجأة.
إن الثورة السورية حين جاءت إلى الوجود جاءت بمطالب مشروعة تكفلها كل الشرائع الوضعية والسماوية، ولم تَحِدْ تماما عن سياقها السلمي إلا بعد أن اصطدمت بتعنت النظام السوري وإصراره على إقبار أي حلم شعبي في غذ أفضل يعيش فيه الجميع تحت سقف واحد بعيدا عن التمييز والاضطهاد، بل وأجهض الحلم في مهده بأساليب وحشية بربرية حتى لا يصير واقعا ملموسا ينعم به السوريون بمختلف أطيافهم، فتحول الأمل إلى رماد تلاشى في الهواء وانتهى أمره إلى الأبد، ليحل محله صراع طويل الأمد تحاول كل جهة فيه ركوب موجة الثورة السورية لتصفية حساباتها وتحقيق أهدافها.
 فكان نتيجة لهذه الوضعية أن ظهرت على الساحة السياسية مخلوقات غريبة تتقمص دور المدافع المغوار والراعي الرسمي للثورة السورية، هذه الكائنات منهم من لم يطأ بقدمه أرض سوريا من قبل، بل منهم من لا يعرف عنها سوى القدر اليسير ولم يذق ولو قليلا مما يذوقه السوريون يوميا مع الحرب الدائرة هناك منذ 6 سنوات، وتراهم يطلون من خارج سوريا بين الفينة والأخرى من فنادق خمس نجوم ببدلات راقية وأحذية فاخرة وساعات يدوية من الطراز الرفيع وعطورات من أشهر المحلات العالمية، يجتمعون حول مصير الثورة السورية ويفاوضون نيابة عن الشعب السوري الموجوع نظام الأسد وحلفائه، أهناك أضحوكة اكبر من هذه؟
كل من تتبع الثورة السورية من بداياتها وفي مختلف أطوارها ومنعرجاتها يعلم علم اليقين أن الثوار الحقيقيين من خرجوا سلميا إلى شوارع دمشق وحلب ومختلف المدن السورية أطفالا ورجالا ونساء مطالبين بإحقاق الحق وتوسيع مجال الحريات وترسيخ مبادئ الديمقراطية كغيرهم من شعوب الأرض قد مسحوا من الوجود تماما ولم يبق لهم أثر، وأن من يظهرون اليوم بأقنعة مزيفة وأسماء مستعارة وخلفيات مجهولة ليسوا سوى تجار مصالح تقودهم أطماعهم السياسية والاقتصادية إلى اعتبار سوريا الوجهة المفضلة لهم والصفقة المربحة بكل المقاييس، فأغلبهم رجال أعمال مرموقين وشخصيات نافذة في دنيا المال والأعمال مكنهم نفوذهم من لعب دور المنتدبين عن الشعب السوري رغما عن أنفه، تجدهم يتناوبون بشكل سريع على اعتلاء المناصب ومتناقضين في قراراتهم ومواقفهم إلى حد بعيد، لا يجيدون لعبة السياسة ولا يترددون أبدا في تقديم تنازلات قاسية للنظام السوري وحلفاءه بحسب ما تفرضه عليهم المصلحة الشخصية والوعود الغربية والأمريكية، دون إظهار أية مواقف ثابتة نابعة من شعور بالغيرة أو على الأقل الخوف على مستقبل سوريا والسوريين في المنطقة.  
في حين أن الشعب السوري وبشهادة التقارير الدولية والخبراء العسكريين أصحاب الدراية في الميدان من أكثر الشعوب اضطهادا على وجه البسيطة في هذا الزمان، بل ويتعرض لمجازر وعمليات إبادة جماعية لم يشهد التاريخ مثلها إلا نادرا، وكانت منظمة العفو الدولية مؤخرا قد وثقت حوالي 18 ألف حالة وفاة في السجون السورية نتيجة التعذيب وسوء المعاملة، ناهيك عن حملات التهجير القسري المنظم ومحو الهويات وطمس الأقليات فحدث ولا حرج، هذا الشعب الذي يئن تحت رحمة البراميل المتفجرة وتعيث فيه المليشيات قتلا و تشريدا ينتدب مثل هؤلاء للدفاع عنه في المحافل الدولية المتآمرة؟ من يصدق هذه التُرَّهَة؟.



الأحد، 5 مارس 2017

حياتنا قبل الانترنت


تغيرت حياتنا مع الانترنت،
نعم حقيقة يلمسها كل من اقتحم أغوار هذا العالم الفسيح المليء بالأخبار والأحداث والمتاهات، من منا لا يتذكر أيام الألفة والدفء حين كنا نجتمع حول مائدة واحدة نتجاذب أطراف الحديث، قبل هبوب رياح الانترنت والهواتف النقالة، نعيش الحياة بحب وامتنان متحدين مجتمعين، يمزح كل منا مع الآخر في جو عائلي جميل يريح النفس ويقوي أواصر المحبة والإخاء، نقهقه فرحا إذا دعا إلى الأمر داع أو بادر أحدهم بنكتة طريفة، نبتسم في وجه المتحدث ونثمن قوله، نتفقد الغائب ونسأل عنه، نقدر الحاضر ونسعد به، نتحدث عن ماضينا ومستقبلنا وما يدور في ذهننا، عن يومنا كيف قضيناه، وأسبوعنا كيف طويناه، نعبر عن ما نختلجه في صدورنا من مشاعر وأحاسيس خصوصا ونحن أمام آذان صاغية أمينة، وقلوب صافية بريئة، تعيش بجوارحها معنا لحظة بلحظة كل كلمة تخرج من أفواهنا.
أما وقد اقتحمت التكنولوجيا بيوتنا دون استئذان من كل باب ونافذة، وغزا الوايفي كل غرفة ومائدة، وظهر إدمان جديد من نوع خاص يضاف لقائمة السلوكيات البشرية المدمرة، أصبح من الصعب جدا بل من المستحيل أن تعود الحياة كما كانت من قبل وأن يعود الحب كما جاء برداء الصدق والدفاء، فحيثما حل بك الحال وقادتك قدماك، إلا وتجد كائنات غريبة منزوية في ركن من أركان المقهى أو المطعم أو أي مكان آخر يقصده العامة، تعبث في صمت بأجهزتها الالكترونية مختلفة الأحجام و الألوان، لا تتحرك إلا إذا أشارت للنادل بطلب مشروب، ولا تلتفت إلا بحثا عن مكان مناسب تعمل فيه إشارة الاتصال بشكل أفضل، تفضل الانفراد بنفسها لتعيش عالمها الخاص المحاط بهالة من الغموض والتركيز، هذه المخلوقات التي تقضي ساعات طويلة حبيسة الهاتف النقال تسبح من موقع لآخر، ومن خبر إلى خبر، ومن مخاطب افتراضي إلى مخاطب آخر مجهول الهوية والمصدر، ضاعت معها المصداقية، وأصبحت العلاقات الإنسانية بتصرفاتها هذه فارغة من أي أساس أو قيمة، بل وتغير طعم التواصل الاجتماعي وجرد من محتواه الإنساني الطبيعي، وظهرت رموز غريبة وأشكال عجيبة حلت محل المشاعر الإنسانية النبيلة، لتخلق حالة من الهروب النفسي وانفصام الشخصية بين خلفية المعبر ومشاعره الحقيقية، فأمكننا مثلا إيهام المخاطب بالفرح والسرور عن طريق استعراض رسومات افتراضية معينة، مع أننا نعيش في واقع الأمر أعلى درجات الضجر والاكتئاب، وأصبح من السهل جدا أن نحصل على مئات الأصدقاء، وأن ندردش في عشرات منتديات التعارف، لكننا في نفس الوقت نحس بالوحدة والوحشة والرغبة في الكلام بشكل مباشر مع أحدهم، والتعرف عليه عن قرب بشخصه وهيئته.
أما إذا وقع بصرك اليوم على مجالس الأحباء أو الأصدقاء أو الزملاء، فكأنك حجزت مكانك في بيت للعزاء، أو كأن صاعقة من السماء نزلت على كل فرد فأخرسته عن الكلام وطارت بتفكيره وخياله إلى عالم آخر يعيش بمفرده فيه دون الحاضرين معه، فتتحقق بذلك مقولة وكأن على رؤوسهم الطير، وقد ترى مثلا أحدهم مقهقها بأعلى صوت وهو يحدق ببصره في شاشة هاتفه الذكي مع أن جو المجلس غارق في الصمت والكآبة، وقد تراه على نفس الوضع بادية عليه علامات الانزعاج والغضب رغم أن الكل منشغل في صخب المرح والدعابة.
هكذا تغيرت حياتنا وتصرفاتنا مع دخول عالمنا عصر العولمة الرقمية، وهكذا تأثرت المجتمعات البشرية في روابطها البينية تأثرا بالغا جعلها تدخل في منعطف خطير يُنبئ بتفكك أخلاقي واجتماعي لا يبشر بالخير.

الخميس، 2 مارس 2017

قصة من الواقع


إلتقيته صدفة على قارعة الطريق، تبدو عليه علامات التعب والفتور، مضت سنوات طويلة على آخر لقاء جمعنا ببعض، كانت نظراته غريبة مليئة بالغموض والحيرة وابتسامته تعلن الانسلاخ من كل شيء وكأنه يعتصرها اعتصارا لكي يوحي للآخرين على أنها فعلا ابتسامة صادقة. بادر بالكلام :

* كيف أنت؟

* بخير والحمد لله كيف حال الأسرة الكريمة؟ لقد اشتقنا للوالد.

أجاب بحرقة ومرارة يكتنفهما شيء من الهمة لاستجماع قوة الوقفة :

* الوالد توفي منذ سنة ونيف، والوالدة على فراش الموت تصارع قدرها.

* رحمه الله رحمة واسعة، أتمنى لوالدتك الشفاء العاجل طهورة إن شاء الله. رفع عينيه في وجهي وقال :

* وأنت ماذا تفعل هنا؟ اشتقنا إليك.

* أما أنا فشاءت الأقدار أن أقطع هذا البحر طولا وعرضا وأنا أشير إليه وقد لامس أصبعي أفقه. سافرت بحثا عن لقمة العيش بعد أن غُلّقت كل الأبواب في وجهي ولم يبق لي سوى الإبحار عبر زوارق الموت إلى الضفة الأخرى، إلى بلاد الغربة...

* وماذا بعد؟ ماذا جرى معك؟

* للأسف لم أتمكن من تسوية وضعيتي هناك بشكل قانوني، فكان مصيري الطرد والعودة إلى البلاد مرة أخرى.

* وماذا تنوي فعله؟

* أنا حائر جدا أظنني سأعود من جديد إلى البحث عن وظيفة هنا، على الأقل سأعيش على بصيص أمل ولو أنه صعب المنال، فأنت تعلم جيدا ما آلت إليه الأمور مؤخرا، وها أنا ذا أبدأ رحلتي هذا الصباح.

أخذ تنهيدة من أعماق قلبه وبدت عليه علامات التأثر وهو ينظر إلى بعض الأوراق أحملها بين أصابعي قبل أن يعقب :

* نعم أنت على حق.. فأنا بدوري قضيت سنوات طويلة من مباراة لأخرى، تارة أنجح في الامتحان الكتابي وتارة أرسب في المقابلة الشفوية حتى كدت أجن، اجتزت العشرات من المباريات ومعها أرسلت العشرات من الطلبات البريدية كنت اصرف مالا كثيرا أقترضه من الناس دون جدوى، لو احتفظت به لوجدتني الآن أدير مشروعا مربحا، سكت قليلا ثم تابع :

* وفي آخر عهد لي بالمباريات أتذكر حين قصدت مدينة بعيدة بغية دفع طلبي لوظيفة كنت قد اعتدت اجتيازها كل سنة، وكانت تأخذ مني مجهودا مضنيا في المراجعة وأموالا طائلة في إعداد الأوراق والتحاليل الطبية، وحين وصلت مكتب دفع الطلبات وقدمت ملفي إلى السكرتير انتظرت قليلا قبل أن يكشر في وجهي ويقول، ألا تنتبه؟ لقد بلغت ثلاثين سنة ولا يمكنك دفع طلب الوظيفة، لقد تجاوزت السن القانوني المسموح به يا هذا !.

فمن شدة انشغالي بالمباريات وكثرة تنقلاتي وراءها من مدينة إلى أخرى، نسيت أني صرت كهلا ولا يمكنني الاستمرار في هذه المسرحية السخيفة.

ثم دخل في موجة ضحك هستيري لا يمت إلى الفرح بصلة، وهو يضع راحة يده على جبهته :

* يا لها من أيام كئيبة. قبل أن يرسم على وجهه ابتسامة مشجعة :

* لا أريد أن أفقدك الأمل، انس ما قلت لك وتوكل على الله.

كان خيالي قد سافر مع قصته الغريبة وأنا أحدق في وجهه باندهاش وسرعان ما بادرته بالسؤال :

* وماذا فعلت؟ هل وجدت عملا؟ ماذا حصل معك بالضبط؟

أجاب بحزن دفين وكأن هموم الدنيا كلها فوق ظهره :

* أمسح الأحذية بين شوارع المدينة الرئيسية، هي مهنة شريفة أليس كذلك؟

نظر إلي مستسلما وكأنه يريد الجواب بأسرع وقت ممكن، فأجبت متلعثما :

* نعم نعم .. المهم أنك تأكل من عرق جبينك.

سكتنا لوهلة، ثم وجدت نفسي مضطرا إلى المغادرة، كان آخر ما قال لي :

* إلى اللقاء يا صديقي تشبث بالأمل ولا تمل... ثم ابتعد..

استدرت وأنا مطأطئ رأسي ويداي مدفونتان في جيبي وانطلقت وكأني وحيد في هذا العالم، كان كل ما يدور في ذهني جملة واحدة :

لا بد أن أخوض تجربة البحر من جديد !

قائمة المدونات الإلكترونية