الخميس، 2 مارس 2017

قصة من الواقع


إلتقيته صدفة على قارعة الطريق، تبدو عليه علامات التعب والفتور، مضت سنوات طويلة على آخر لقاء جمعنا ببعض، كانت نظراته غريبة مليئة بالغموض والحيرة وابتسامته تعلن الانسلاخ من كل شيء وكأنه يعتصرها اعتصارا لكي يوحي للآخرين على أنها فعلا ابتسامة صادقة. بادر بالكلام :

* كيف أنت؟

* بخير والحمد لله كيف حال الأسرة الكريمة؟ لقد اشتقنا للوالد.

أجاب بحرقة ومرارة يكتنفهما شيء من الهمة لاستجماع قوة الوقفة :

* الوالد توفي منذ سنة ونيف، والوالدة على فراش الموت تصارع قدرها.

* رحمه الله رحمة واسعة، أتمنى لوالدتك الشفاء العاجل طهورة إن شاء الله. رفع عينيه في وجهي وقال :

* وأنت ماذا تفعل هنا؟ اشتقنا إليك.

* أما أنا فشاءت الأقدار أن أقطع هذا البحر طولا وعرضا وأنا أشير إليه وقد لامس أصبعي أفقه. سافرت بحثا عن لقمة العيش بعد أن غُلّقت كل الأبواب في وجهي ولم يبق لي سوى الإبحار عبر زوارق الموت إلى الضفة الأخرى، إلى بلاد الغربة...

* وماذا بعد؟ ماذا جرى معك؟

* للأسف لم أتمكن من تسوية وضعيتي هناك بشكل قانوني، فكان مصيري الطرد والعودة إلى البلاد مرة أخرى.

* وماذا تنوي فعله؟

* أنا حائر جدا أظنني سأعود من جديد إلى البحث عن وظيفة هنا، على الأقل سأعيش على بصيص أمل ولو أنه صعب المنال، فأنت تعلم جيدا ما آلت إليه الأمور مؤخرا، وها أنا ذا أبدأ رحلتي هذا الصباح.

أخذ تنهيدة من أعماق قلبه وبدت عليه علامات التأثر وهو ينظر إلى بعض الأوراق أحملها بين أصابعي قبل أن يعقب :

* نعم أنت على حق.. فأنا بدوري قضيت سنوات طويلة من مباراة لأخرى، تارة أنجح في الامتحان الكتابي وتارة أرسب في المقابلة الشفوية حتى كدت أجن، اجتزت العشرات من المباريات ومعها أرسلت العشرات من الطلبات البريدية كنت اصرف مالا كثيرا أقترضه من الناس دون جدوى، لو احتفظت به لوجدتني الآن أدير مشروعا مربحا، سكت قليلا ثم تابع :

* وفي آخر عهد لي بالمباريات أتذكر حين قصدت مدينة بعيدة بغية دفع طلبي لوظيفة كنت قد اعتدت اجتيازها كل سنة، وكانت تأخذ مني مجهودا مضنيا في المراجعة وأموالا طائلة في إعداد الأوراق والتحاليل الطبية، وحين وصلت مكتب دفع الطلبات وقدمت ملفي إلى السكرتير انتظرت قليلا قبل أن يكشر في وجهي ويقول، ألا تنتبه؟ لقد بلغت ثلاثين سنة ولا يمكنك دفع طلب الوظيفة، لقد تجاوزت السن القانوني المسموح به يا هذا !.

فمن شدة انشغالي بالمباريات وكثرة تنقلاتي وراءها من مدينة إلى أخرى، نسيت أني صرت كهلا ولا يمكنني الاستمرار في هذه المسرحية السخيفة.

ثم دخل في موجة ضحك هستيري لا يمت إلى الفرح بصلة، وهو يضع راحة يده على جبهته :

* يا لها من أيام كئيبة. قبل أن يرسم على وجهه ابتسامة مشجعة :

* لا أريد أن أفقدك الأمل، انس ما قلت لك وتوكل على الله.

كان خيالي قد سافر مع قصته الغريبة وأنا أحدق في وجهه باندهاش وسرعان ما بادرته بالسؤال :

* وماذا فعلت؟ هل وجدت عملا؟ ماذا حصل معك بالضبط؟

أجاب بحزن دفين وكأن هموم الدنيا كلها فوق ظهره :

* أمسح الأحذية بين شوارع المدينة الرئيسية، هي مهنة شريفة أليس كذلك؟

نظر إلي مستسلما وكأنه يريد الجواب بأسرع وقت ممكن، فأجبت متلعثما :

* نعم نعم .. المهم أنك تأكل من عرق جبينك.

سكتنا لوهلة، ثم وجدت نفسي مضطرا إلى المغادرة، كان آخر ما قال لي :

* إلى اللقاء يا صديقي تشبث بالأمل ولا تمل... ثم ابتعد..

استدرت وأنا مطأطئ رأسي ويداي مدفونتان في جيبي وانطلقت وكأني وحيد في هذا العالم، كان كل ما يدور في ذهني جملة واحدة :

لا بد أن أخوض تجربة البحر من جديد !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

قائمة المدونات الإلكترونية