الأربعاء، 29 نوفمبر 2017

خيري شلبي صوتُ المهمّشين والمحرومين


خيري شلبي الأديب المصري الكبير والقصّاص البارع المتمكن، يُعدّ من أكبر ما أنتجته مصر في مجال القصة والرواية، عُرف بكثرة إنتاجاته وإسهاماته المميزة في عالم الأدب، كان دائما لديه ما يَكتب، فالكاتب الحقيقي المُنغمسُ في شرايين المجتمع والمتشبّع بمشاكله وآفاته، دائما ما يجد نفسه جزء من هذه المعاناة، وطرفا مندفعا في صراع الخير والشر الأبدي.
  
يُصارع بقلمه ومداده كما يصارع الآخرون بظلمهم وطغيانهم، وقد كان خيري شلبي من هؤلاء، نَقلَ معاناة الناس في رواياته بتفاصيلها ودقائقها، وصوّر بإبداعٍ فذّ حقبةً زمنية قاسى فيها المجتمع المصري والعربي على حدّ سواء من شظف العيش وقهر الاستعمار وتفشّي أمراض الجهل والبطالة والتخلّف، حتى لُقّب بالمُدافع عن أحلام الفقراء وحامل صوت المقهورين والمُعذَّبين في الأرض.
  
وقد يرى البعض أن الكاتب أو الروائي يعيش في برجٍ عاجي، ينفردُ بنفسه في عالمه الهادئ بمنأى عن المجتمع وما يَغلي فيه، فلا يراهُ إلا بمنظارٍ على مسافة بعيدة دون أن يقتربَ منه ليذوقَ ما يذوقُه الناس وهُم يتقلّبون فيه يميناً ويساراً كما تُقلَّبُ الشاة على جمر السفّود، وهذا غير صحيح، فقد كان خيري شلبي يؤكد دائما على أن الكاتب أصيل المعدن عليه أن يكدح في الحياة قدرَ ما يستطيع، ينزل إلى الميدان مُشمراً على ساعديه ليشارك الناس مشاكلَهم وأحزانَهم وهمومَهم عن قُرب، فيجالس سكان القبور والعشوائيات ويتحدث إلى البسطاء والمحبطين والمنسيين في حُفَر المناجم وكُهوف الجبال كواحد منهم، ولا تقتصرُ كتاباته فقط على الذاكرة، لأن الذاكرة حسب رأيه لا تُنتج أدباً رفيعا.
  
والكاتب الحقيقي لا يسعى لحياة الرفاهية من كتاباته، ولا يجلسُ على كرسي مكتبه جلوسَ المُستريح المتكبّر يطمحُ للشُّهرة والألقاب وعَقْدِ النّدوات واللقاءات بين الفَينة والأخرى، فليست هذه الأمور رسالته في الحياة، وليس هذا سبيله إلى حملِ لَقَبٍ كبير يُثقل كاهلَ حَامله.
يقول خيري شلبي : "بدأتْ مرحلة التشرّد الحقيقي منذ خروجي من البيت، كانت تجربة من أقسى ما يمكن أن يتحمّله بشر، رجلٌ يمشي ليلاً ونهاراً دون توقف بلا نقود ولا وِجهة، فطالما لا تملك نقودا في جيبك، لن يفتح لك الباب أحد أو يستقبلك ولو كان أخاك!"، حمل تاريخا ثقيلا على أكتافه منذ نعومة أظفاره، جسّد تجاربه ورحلاته في رواياته وقصصه بأسلوب ساحر مشوّق دقيق السرد صادق التعابير، وخيالٍ واسع يسبحُ عبره في عوالم مختلفة من صُنعه وإبداعه موظفا شساعة ثقافته وإلمامه بجُلّ الفنون، تحسُّ في كتاباته وكأنه يحمل همَّ أمة كاملة على عاتقه، إذ تنبعثُ كلماته من صميم قلبه مُلتحّفة برداء الألم والحسرة على واقع كل إنسان يعاني القمع والتهميش في كل مكان.
فعلا، فكتابات خيري شلبي لعقود متواصلة لم تحدْ شبرا عن نقل الواقع الاجتماعي المزري الذي عاشه الإنسان المصري تحديدا في حِقبة عبد الناصر، كان صوتا للشباب المغلوب على أمره تحت جبروت التحكم والفقر والبطالة، صوتا للمشردين الفاقدين طعم الحياة، صوتا للعمّال والبسطاء والمهمشين المكابدين عناء الزمن وأثقاله، صوتا حازما ضد الفساد بكل طعَناته وأنيابه، لا تشغله الجوائز والمناصب والألقاب بقدر ما تهزّه معاناة من حوله، ولا يحزنُ إذا وَجد أعماله لا تحظى بالدعاية الإعلامية كما يحصلُ مع غيره من الكُتّاب بقدر ما تشدّه مِحن المجتمع وإرهاصاتُ التجارب الإنسانية.

هي معاناةٌ مريرة تلك التي عاشها خيري شلبي في طفولته، ولكم أن تتخيّلوا كيف لطفلٍ صغير يُتابع دروسه في الكُتّاب أن يُطرد من البيت ويُمنع من دخوله والاتّصال بأمّه وإخوانه، لا لشيءٍ سوى لأن أباه توصّل بكتابٍ مفادُه أن ولده قد غاب عن حضور امتحان، إذ كان خيري شلبي الصغير في قمّة الانشغال بالقراءة والتهامِ الكتب والمخطوطات القديمة، بينما أقرانه في سنّه منشغلون في اللّهو واللعب بما تيسّر لهم من وسائل بدائية، تلك العادة التي استحوذتْ على فكره ووقته وتغلغلتْ إلى أعماقه ووجدانه فكانت وبالاً عليه.
      
وَجدَ نفسه فجأة وحيداً في الشارع، لا مَن يرقُّ قلبُه له ولا مَن يمسحُ الدمعة مِن على خدّه، ولا مَن يُفضي إليه بذات صدره وانفطار قلبه على فراق أسرته وحضن أمّه الدافئ في ليالي البرد، وكأنه اقترفَ من الجرائم أفظعها وأعتاها. لم يجدْ خيري شلبي بعد ذلك من سبيلٍ سوى أن يُطلق العنان لقدميه تَهيم به من شارعٍ إلى شارع، ومن دربٍ إلى درب، ومن بابٍ إلى باب مثقلةً بوحدته ومصابه لعلّه يجد من يُقدّر حكمته وموهبته ويُحيِي من جديد أمله في الحياة.
         
ترك إرثاً أدبياً ضخما من رواياتٍ ومجموعات قصصية ومسرحيات ودراسات ومقالات أثْرت المكتبة الثقافية العربية، وقلّما وصل كاتبٌ لمثل هذا العطاء الوفير على امتداد حياته الأدبية، نالت روايته وكالة عطية على جائزة أفضل رواية لسنة 1993، كما توج مسيرته الطويلة بجوائز عديدة كجائزة الدولة التشجيعية سنة 1991 ووسام العلوم والفنون وغيرهما، ورغم أنه رُشّح من مؤسسة امباسادور الكندية للحصول على جائزة نوبل للآداب، إلا أنه لم يظفر بها في النهاية، بل لم يُعرْ لها اهتماما يُذكر، قال بشأنها "يقنع واحد مثلي أنفق حياته في الكتابة أن يجد في النهاية أصداء طيبة لما بذله من جهود، والقارئ مرتبط دائما بما يشعر أنه صادق وأمين مع التجربة الإنسانية".
  
قلّما تجد كاتبا معروفا مثل خيري شلبي نزّه نفسه عن الخوض في أتون السياسة المتعفّنة وسيرتها الملوثة بالنفاق والمصلحة، بل ظل وفيّاً قيد حياته لرسالة قلمه المبدع في الكتابة، المُرهف الأحاسيس الصّادق المشاعر، هذا هو خيري شلبي لو حصل على كل جوائز نوبل للآداب مجتمعة لن يُوفيه ذلك حقّه تجاه ما أسهم به في سبيل الإنسانية مثقال ذرّة واحدة، ولو وُضعت أعماله في كفّة وأكاذيب السياسيين المُنمّقة في الكفة الأخرى لرجحت كفته مباشرة دون عناء.
      
ثم إن الجوائز لا يحصدها أصحابها إلا بمواقف اتخذوها تماشت وتناغمت مع توجهات أصحاب العطاء٬ وإلا فلن تُعلّق أسماؤهم في لائحة المُتوّجين حتى يلجَ الجمل في سمّ الخياط٬ ولا حلمهم بالجائزة قد تحقق ولا مُناهم بالوصول قد بلغ٬ وهل يقاس عطاء إنسانٍ بورقة تقديرٍ تُسلّم من حفنة مثقفين؟ أم يقاس باقتناع الكاتب الشخصي ورضاه الداخلي بما قدّم ونفع؟ يستمده من تقدير المحيطين به والقادمين من بعده من مختلف الانتماءات والجنسيات. "رحم الله خيري شلبي".


الثلاثاء، 21 نوفمبر 2017

بين المعارك الأدبية والصراعات الدموية


لا يخفى على أحد ما سَطعَتْ به شمس الأدب العربي من شُعاعٍ متوهّج في بدايات القرن الـ20 أتحف المكتبة العربية بدُرَرٍ أدبيةٍ خالدة ما زالت تُشكّلُ إلى اليوم عمادَ الدراسات العربية في الشعر والأدب، ولعلَّ ما أثرى هذا العطاءَ المُنهمر وفتح الأبواب أمامه لمزيدٍ من التألّق والإبداع، ما عُرف على أصحابه من تنافسٍ شريفٍ وتسابقٍ عفيف، فكان أبطاله مِمّن نهلوا من مَنابع العِلْم القدرَ الوَافر، فاحترَفُوه وأتْقَنوه وأحَاطوا بكلِّ دَقائقه وتَفصيلاته، وخيرُ ما يشهدُ على مكانةِ آثارهم الأدبية ومخلفاتهم الذهبية تلك الألقاب الخالدة التي بَصموا بها على مسارٍ حافلٍ بالعطاء وإثراءِ الثقافة العربيّة، فهذا شاعر النيل حافظ إبراهيم، وذاك أمير الشعراء أحمد شوقي، وجبار الفكر عباس محمود العقاد، وفراشة الأدب مي زيادة وغيرهم، أحمد أمين والرّافعي ومحمود سامي البارودي واللائحة تطولُ لتضمَّ بين ثناياها خِيرة رجال الأدب ممّن أفنوا حياتَهم في سَبْر أغواره وتفقّد أسراره.


وإذا كان التنافسُ بين رُوّاد الأدب العربي في زمانه قد حادَ بعضَ الشيء عن أُسُسِ الاحترام، فاتّهَمَ البعضُ البعضَ الآخر بالتقصير والجهل وغيره، فإن ذلك كان من باب الغيرة على الإنسان، وعلى تاريخنا وحضارتنا لا غير، ولم يَضر أصحابَهُ بقدرِ ما أعلى مقامَهم وأعظمَ شأنَهم وجَلبَ النّفعَ الكثيرَ للأدَب، إذْ إنَّ همّهم الوحيد كان هو التعبير عن مواقِفهم دفاعًا عن رأيٍ أو تبنّيًا لتوجّهٍ يَرونَهُ سالمًا من الزّيغ وخادمًا للبشرية جمعاء وليس شيئًا آخر، فحَقَّ لَهُم ذلك، ولم تكنْ تدفعُهم من وراء أفكارِهم هذه مُراوغات المُجاملة والنّفاق، بل كانوا يعتمدون في جدالهم وسجالهم على أدلَّة مَنطقية دقيقة ودِراسات عِلمية مُستفيضة، يُصدِرون بخصوصها كتبًا ومؤلفات حتى تتّضح الصورةُ للقارئ ويَصِل المَغزى، ولعلَّ ما ساهم في الصّحوة الأدبيّة آنذاكَ وفتحَ شهيّةَ الأدباء لمزيدٍ من النّشرِ والتأليفِ والإبداع، هو هذا التنافس الشّديد بين الحداثة والرجعية الذي بلغ أوْجَهُ في عصرهم، حتى سُمّيت بالمعاركِ الأدبية بين الرافعي مثلًا الداعم للتراث إيمانًا منه بقدرته على مواكبة مستجدات العصر، وطه حسين المؤيد للحداثة، أو بين زكي مبارك وأحمد أمين، إلى درجة أن عُرف زمانهم بعصر القسوة في النقد العربي.
وإنَّ ما نعيشُه اليوم لَهُو عصرُ أزمة فكرية وتراجعٍ ملحوظٍ في جودة الإنتاجات الأدبيّة، إلا من بعض الزخّات المطرية التي ما زالت تُحاول إرواءَ أرض جدباء قاحلة يموتُ فيها عُشّاقُ الأدب والجمال عَطشًا وجوعًا، إلا أنَّ صَوتَهم وصِيتهم وإن كُنّا في عصر الأقمار الصناعية لا يصلُ إلى الباحثين عن الزّاد المعرفي إلا وقَدْ فَقَدَ قيمتَهُ وسط هذا الغُثاء، وكأنَّ روابط الاتّصال مقطوعة ومسافات اللقاء متباعدة، والحقيقة أنّنا في زمنٍ أصبح كل شيءٍ فيه متاحًا ومكشوفًا، بقدر ما هو غامض المَعالِم، وكل نقطة كُنا نَحسبها أبعد ممّا نتصوّر هي اليومَ أقرب ممّا كنا نَتخيّل، لكن تشاءُ الأقدارُ أن نتأثّر بما تَنثُره علينا الصناعةُ والحداثةُ من آثارها على الإنسانية، بقَدرِ ما تَجودُ به علينا من امتيازاتها الدنيويّة، وهذا من عجائب الزّمان ومن مُفارقات ضريبة التقدّم.
وأمام تاريخ أدبيّ وثقافي مُشرّف بشهادة الشّهود من خارج البيتِ العربي، نَرى اليومَ واقعًا مريرًا يُضاهي في مَرارته ما عَرفَه ذاك العهدُ من سُموّ أعلامه وعُلوّ كَعبهم، ورفعةِ مَدارسه ونُبوغ مُنتَسبيها، وبعد أن كان هؤلاء يلجؤون إلى القلم في ردّهم على ما لا يرونَهُ صوابًا أو مُجانبًا للصّواب، فيَهدمون بالمِداد ما بنَاه الآخرون من إسمنت، ويُلزِمون الحُجّة عليهم ويُبيّنون لهم أوجُه النّقص والضعف، فيُدحضون بالعقل ما شيّده نُظراؤُهم بالعقل نفسه، يردُّ بالمِثل أصحابُ الانتقاد بالدّفاع عن آرائهم والاستدلالِ على صحّتها ومَنطقيتها ومَحوِ كل شُبهةٍ ترمي إلى النّيل منها وتَحقيرها، وهكذا لا يخرجُ الصّراع عن دَفّتيْ كتاب، أو فقراتِ مَقال، ولا يتجاوزه إلى سلاحٍ فتّاك آخر سوى سلاحِ القلم والوَرق، فتصفو الأنفسُ حينًا وتثورُ الثّائرات حينًا آخر، ولا يزيدُ الأدب سوى تعظيمًا وتنوعًا وإبداعًا يجدُه القارئُ زادًا هنيئًا فيكفيهِ ويَكتفي به.
أما اليوم فقد أصبحَ الفيْصلُ في كل نِزاع سيفًا ومنجلًا، وكيفما كانت طبيعة هذا الخلاف فمَردّه إلى الدماء لا محالة، بل والتمادي في القتل والتنكيل في تغييبٍ صارخٍ للعقل البشري والانتماء الإنساني المُنزّه في طَبْعِه وطبيعته عن هذه الأفعال المشينة، فأصبح تكميمُ الأفواه لا يتمُّ إلا بالسّيف، وكان من قبلُ يُدركُ بحُجّة القلم وحُجية الحرف، وانشغلَ العارفون في زماننا وهُمْ على كَثرتهم أبعد ما يكونون عنِ المعرفة، بِكُره كل من يُخالفُهم الرأي، أو يتصدّى لتُرّهاتهم وخُزعبَلاتهم بعد أن عجزوا عن تحريكِ القلم وإعمال البُرهان، والردّ بمنطقٍ من حديد وليس بسلاح من حديد، ويبدو أن العُقول اليوم قد فَسدتْ وعميتْ وطُمِرت في خنادق الظّلامية والجهل حتى وصلَ بها السبيل إلى طريقٍ مسدود تجمّعت في آخره وتناحرتْ وتقاتلتْ وتلطّختْ أياديها بالدماء فلم يَسلمْ منها أحد، فكل من يستفردُ برأيه ويرى ما يَراه، يصنعُ لنفسه جماعةً تقوّي شوكتَه وتَحميه من كَيْد خُصومه وتربّص أعدائه كما يَعتقد، فيبدأ بكَيْل الاتهامات جُزافًا بالتّخوين والتّكفير وما إلى ذلك، ولا يرى نفسَهُ إلّا وحيدًا وسط هذا العالم الفسيح من يتَّبِعُ الصّواب ويسيرُ بخطى ثابتة نحو الفوز بالنعيم، إلى درجة أن يوهِمه خَرفُهُ بأنه ضَمِن لنفسه الجنة ولن يزاحمه فيها أحد، أما غيرُه فمن المُنحرفين الضّالين المضلّين وبالتالي ما عليه إلا أن يحملَ في يده سوطًا ثم يبدأ بتفريق الجُموع ومُعاقبتهم بين من يراه أهلًا للجنة كونهُ يمشي على أثرهِ ويرى ما يراه، وبينَ من ينتظرهُ عذابُ جهنّم ولا أملَ له في النّجاة، وقد نَسِي المسكين أو تناسى أنه بذلك يُزاحم الله سبحانه وتعالى في مُلكه ومَشيئته، إذ لا تَخرج هذه الأمور عن تدبير العزيز الحكيم، هو في غِنى عن عبادته وعن العالم كلّه، وهو لا يملكُ لنفسه نفعًا ولا ضرًّا فكيفَ يتحكّم في مَصائر الأفراد ويَتنبّأ بمآل أُمَم.
وأمام هذه السلطة الطائشة المُستفرد بها، وهذه العَجرفة المُبالغ فيها، تسقطُ أرواحٌ بريئة ليس لها في كل هذا النّفاق المتجذّر من ذنب ولا حتى من رأي تُعبّر عنهُ بحرية، فتُهدَمُ قرى على رؤوس قاطنيها، وتُشرّد مدنٌ بأكملها، وتلتهبُ الصراعات الطائفية والسياسية، وتُكرَّس العقليات المُنغلقة، في غياب تامّ لآليات الحوار التي من المُفترض أن تنشأ عليها المجتمعات الإنسانية، فتُرجّح كفة العناد والانتقام على كفّة الليونة والالتئام، ولا شيءَ يعلو فوق سُلطة العُنف.

متى تعود المعارك من جديد؟ ولكن ليس بالصواريخ وقنابل البارود أو الطعن بالسكين من الخلف، بل أن تعود كما كانت بسلاح الكلمة والإقناع، مع ترك التشبث بالرأي والتعصّب له، ويبقى التراجع عن المواقف من شِيم العُلماء، والرّضوح إلى الحق لا يَعيب المرءَ في شيء ولا ينقصُ من قيمتِه، بل يُميّزُه عن باقي المخلوقات بالعقل الذي يُوجّهه إلى حيث يكون الصّواب، فقد تراجعَ من قبلُ عميد الأدب العربي طه حسين عن بعض مَواقفه، وسار على دَرْبه الكثيرون، ولولا هذه المُجابهات الأدبية والتنازلات الشجاعة البنّاءة، فلا الفكرُ بلغَ الثّراءَ ولا الأدَبُ تقدّم، ولدخلَا في حلقةِ الخمول والفتور كما هو حاصلٌ اليوم.

الأحد، 19 نوفمبر 2017

لا تكن داعية..


لا تحلمْ في صِغرك أن تصير داعية إسلاميا في يوم من الأيام، أحلم أن تكون طياراً، طبيباً، رائد فضاء٬ وإياك أن تعتقد أن الداعية مهنةُ العظمة والتفاخُر، فهي عبء ثقيل على ظهر صاحبها، إما أن تغمسه في نار جهنّم أو تُحلّق به في الجنان، ولا تخدعنَّك ثرواتُ وسياراتُ وعماراتُ فقهاءِ هذا الزمان، فهمْ أبعد ما يكون عن حمل شرف ومكانة اللّقب.
لا أحد يولد عالمَ دين، أو داعية من دعاته، ولا تتبلورُ هذه الصفة في الصغير مِثلما تبدو عليه سمات الميول إلى الهندسة والحساب والرسم والآداب منذ نعومة أظافره، وانصرافُ الأطفال في سنوات عُمرهم الأولى إلى حفظ القرآن وتعلّم مبادئ التجويد كما يُصرّ عليهم آباؤهم وأمهاتهم ليس بالضرورة أن يصنع ذلك منهم علماء دين أو دعاة مرموقين، ولعلّ ما يظهر على دعاة اليوم من ثراءٍ جليٍّ ومكانةٍ اجتماعية سامية وشهرةٍ ذائعة الصيت تجعل منهم نجوماً متلألئين في الساحة شأنهم شأن نجوم كرة القدم، هو ما يَجذبُ أولئك الذين بدؤوا للتوّ في رسم معالم طريقهم إلى النجاح، أوَ ليسَ النجاح أن تحصل على مكانةٍ متميزة في المجتمع؟ وعلى استقرارٍ ماليٍّ مريح؟ وعلى شهرة كبيرة بين أقرانك ومعارفك؟ فإنْ لم تكن هذه الأمور من تداعيات النجاح فما هو النجاحُ إذن؟ وبالتالي من حقّ النشء الصاعد أن يضعَ صَوْب عينيه هذه الطريق المعبدةَ نحو الشهرة والثّراء فلا يرَى غيرها، ويتفادى أيّ سبيل آخر قد يجده عامراً بالمتاعب والإخفاقات، فكيف تتحوّل إذن إلى داعية إسلامي بضوابط هذا الزمان؟
عليك أوّلاً أن تختارَ لنفسكَ أسلوباً محدّداً خاصّا بك، بمعنى أن تختارَ الشريحة المستهدفة هل هي من فئة الشباب (صُنّاع الحياة) وبالتالي عليك أن تبدو مفتول العضلات، أنيق البذلة، حليق الوجه، تعكسُ صورةً من الحيويّة والنّشاط، أو من فئة البالغين الراشدين فيجبُ عليك في هذه الحالة أن تظهرَ أكثرَ حزماً وجديّة، وأن تعكس قسماتُ وجهك مخزوناً من الثقة والانضباط، أو من فئة الكهلة الطاعنين في السن(وجوه الموت) وبالتالي قد لا تُعير للمظهر الخارجي اهتماماً بقدر ما تركّز على آخر فتراتِ العمر أو مرحلةِ ما قبلَ الموت، فتستغلُّ هذه الظرفية بذكاءٍ أحسنَ استغلال. فداعية هذا الزمان ليس مُوجّها لجميع البشر، كما كان الحال في السابق لا يُفرّق في كَلامه بين صغيرٍ وكبيرٍ رجلٍ وامرأة، وإنما يختصُّ كل داعية بفئة معينة حتى يأسِرَ قلوب أكبر عدد من المتابعين ويجذبهم لصفّه، فيُركّز في عمله أحسن تركيز، ويختار مواضعه بعناية بالغة ليدخل المنافسة بقوة ويحقق أعلى نسبة نجاح، ولا بدّ أن يحظى في كل تنقلاته وزياراته باستقبالٍ رسميٍّ ودعوةٍ من أعلى هيئة في البلاد، بشكل يليق باسمه وكنوز معارفه وعلومه، فلا يستقرُّ به المقام إلا في فنادق فاخرة من صنف الخمسة نجوم، وصالات استقبال خاصة بجودة عالية حتى يكون مهيأً نفسيّاً ومادياً لهداية الناس ونقل علمه الفذّ إلى طلابه، ثم إن الداعية الإسلامي لا يهمه أن يَبُثّوا أثناء فاصل الاستراحة قبلَ العودة إلى برنامجه التلفزيوني وصلات إشهار لمشروب البيبسي الصهيوني مثلا، أو عروضاً مُغرية في طُرق تعلّم الرّقص الشرقي، أو مساحيقَ تجميل منبوذة مع موسيقى مائعة مُحرّمة، وما إلى ذلك، الأهم أن يقومَ بمهمّته على أحسن ما يُرام ويمتثِل لكلّ ما اتُّفقَ عليه في العقد المُبرم بينه وبين القناة الفضائية الراعية، حتى يأخذ مستحقاته المالية على أكملِ وجه ويخرج فرحا مبتهجا خاشعا قلبهُ بالإيمان والتقوى، ثم يأتي عامل التجربة وهو عامل مهم للغاية، فالداعية الذي سبق له العمل مع أكثر من قناة لا يمكن أن يتقاضى من الأموال ما يتقاضاهُ زميله الذي بدأ للتوّ في عرض أولى تجاربهِ في الميدان، ثم اختيار الطريقة المثالية التي تؤثر ما أمكن من التأثير على المشاهدين والمتابعين إلى درجة البكاء، فكلما أبكيتَ أكثر كلّما ارتفعتْ قيمة العائدات المالية وزاد عدد متابعي الصفحة، وكلّما قلَّ البواكي كلما كان تغيير الأسلوب ضرورة مُلحّة، وعليك أن تتّبع طرقا خاصة في تعاملك مع متابعيك، فمثلا تواجههم مُحرماً وظهرك إلى الكعبة المشرّفة تدعو الله أن يُزوّج أعضاءَ الصفحة بعضهم ببعض، ويُلاقي الحبيبَ بحبيبته، ويجمعَ شمل العاشقة بعشيقها، أو مُتجوّلاً في أدغال إفريقيا القاحلة تقدم بعض الحلوى إلى أطفالٍ يفترشون الأرض من شدّة الجوع والعطش وأنتَ تأخذ سيلفي مؤثرا بجانبهم.. إلخ، ثم تمسحُ دموعك وتُنشّف نظارتك وأنت متعبٌ من شدّة التصنّع والنفاق، وتعيدُ مشاهدةَ الفيديو لتُنقحه وتُقيّمهُ  قبل عرضه على الجمهور.
هذا هو داعية القرن، مهنة صعبة المراس، فكأنّك تدير مشروعاً مربحاً وعليك أن تنتبهَ لكل صغيرة وكبيرة فيه ولا تقع أبداً في الأخطاء، مهنةٌ تتطلّب شخصيةً تتلوّن وتتأقلم بسرعة حسب المستجدات، تقول الكلمة المناسبة في المكان والزمان المناسبين، تستطيعُ تنويم المستمعين تنويماً مغناطيسياً يُدخلهم جميعا في عالمٍ روحاني فريد يدفعون من أجله كلّ ما يملكون.
ولا بدّ للداعية طبعا أن يُتقن أدوات التكنولوجيا الحديثة، وأن يُنشئ موقعه الرقمي أو صفحته الخاصة على شبكات التواصل الاجتماعي ويواظب على تدبيرها وتجديدها أو يُشغّل من يساعده على ذلك، فيُسيّرُ إدارته ويرتّبُ أموره ومواعيده ويتواصلُ مع زبنائه، ويُسوّق أقراصه ومقاطِعه المصوّرة، فهو يُدير مشروعا ضخما بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فالداعية الذي لا يملك في حسابه متابعين افتراضيين كُثُر ولا إدارةً محكمة التسيير، هو داعية فاشلٌ شقيٌّ لا خيرَ يُرجى منه!
الحقيقة أن الدعوة إلى الله لها رجالها الذين أضاء الله فيهم نعمةَ هداية الناس وإرشادهم إلى طريق الحق، دون مقابل ولا مصلحة، قال تعالى "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ"، وطريق الدعوة إلى الله طريق عظيمة الشأن٬ شريفة القدر٬ تتطلب جبالا من الصبر والالتزام بالصدق والأمانة والتواضع وموافقة القول العمل، وإبداء النصح السديد والمواقف الثابتة الرزينة التي لا تَزيغُ عن طريق الحقّ والهداية، لا يُراد من وراءها سوى وجه الله ورضاه، وما سوى ذلك من نوايا خبيثة وأغراض دنيئة مما كَثُرتْ واستطار شرُّها في زماننا هذا، لا يَحقّ لها أن تُشوّه صفاء هذا العمل العظيم وتُلوّث طهارته، فيَنطبقُ على أصحابها قول الله تعالى اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. صدق الله العظيم.

بين محنة الكتابة وشيطانها


ما معنى أن تكتب؟ وما معنى أن تُهيّئ القلمَ والورق والأفكار فيبدأ تَلاقُحها حتى ترى البياضَ وقد امتلأَ حُروفاً، والرأسَ وقد فرغَ من هيجانه وطقطقاته، ثم تستسلم لتُكملَ ما بدأتَ فيما بعد، أو تُنهيهُ حين تَرى أنَّ ما من شيءٍ تُضيفه أكثرَ مما قُلت، فتعيدُ قراءة نصّكَ في المرة القادمة وقد تُضيف إليه ما خطرَ على بالكَ في لحظةٍ ما، أو تُلغيَ منه ما لم تَطبْهُ نفسك وتستسغهُ قِراءتُك.
تلك هي عادةُ الكتابة، وإنْ كانت الطُّرق تختلفُ من كاتبٍ لآخر، لتُشكّلَ عند البعض ما يُشبه طُقوساً غريبةً يستهلّون بها خطوة الإبحار في عالم الفكر، وقد يغرقُون سريعاً وتتيهُ شِراعُهم بلاَ وِجهة مُحدّدة إن غابَ مظهرٌ واحدٌ من مظاهر طُقوسهم وعاداتهم.
فالكتابةُ قلمٌ وورقةٌ وأفكار، فإذا غابَ القلمُ ضاعت الأداة، وافتُقِر إلى المُنقذ المُخلّص الذي يَنثرُ من الرأس ما تتلقّفه الورقة فتحضنُه حُضنا، كالذي يُحرّكُ شجرةَ زيتونٍ ثم يَرى ما يَسقط منها على الأرض فوقَ البِساط، وإذا غابتِ الورقةُ ضاعتِ الفكرة وتلاشت أطيافُها في غَيَبات الفِكر، لن تستطيعَ المسكَ بِطرفها أو اللّحاق بِطيفها المتبدّد ولو حاولت، كالتي تخبزُ خُبزا فلا تجدُ من خشبٍ تُدخل بهِ خُبزها إلى أغوارِ الفرن لتُخرجه منه بِخشبِها المفقود وقد استوى ونَضَج، وإذا غابتِ الأفكارُ وحضرَ الورقُ والقلمُ فكأنهما حضرا إلى ملعبٍ لا تُقام فيه مباراة، ولا يُرَى فيه جُمهور، فجلسَا شاردين وكأنّهما تمثالان لا روحَ فيهما ولا جمال، فجمالُ القلم حين ينتصبُ قوامُه شامخاً ورحيقُه يسيلُ بين الأنامل، وجمالُ الورقة حين تُنقَشُ الحروفُ بين ثَناياها وتُزخرَفُ الكلمات فوق سطورها لتبدوَ كالعروس الغرّاء في ليلة زفافها.
وأنت تفكّرُ وتنقّبُ في أفكارك لتُخرج منها ما يطيبُه فؤادُك ويُريّحُ ضَميرك، يُراودك فجأةً شيطانُ الكتابة من كل ناحية، فيدفعُ بفكرتكَ يميناً وأنتَ تَشدّها شمالا، ويشوّشُ على مَعانيها في عَقلك تشويشاً يُلبسها لباسَ الغُموضِ والإبهام، وقد أردتَ منها الوضوحَ والبَساطة، ويَجرّك غصباً إلى وجهات نظرٍ لم تتبنّاها يوماً ولم تكن قط من بناتِ أفكارك ومبادئك، وقد ترضخُ أخيرا وتستكين إن احتواك شيطانَ الكتابة وغلبك ولعُ الكلمات على صرخة الضمير.
هذه محنة الكتابة وضريبتها، فهل قُلتَ ما يَنبغي أن تقولَهُ في قضية عادلة، لتَنتصرَ لمظلومٍ أو ترد كيدَ ظالم؟ وهل دفعتَ البأس عن أولئكَ الذين يتمنَّونَ أن يُدفعَ بأسُهم وتَظهر حقيقُتهم ولو بجرّة قلم؟ وهل تقاومُ أفكارُك شيطانَ الكتابة كما تُقاوم جوارحُك غواية إبليس اللعين؟ وهل يذرفُ قلمُكَ مداد الحزن والأسى كما تذرفُ الثكالى دموعَها وهي تودّع فلذات أكبادها المغدورين؟ وهل أصبتَ بقلم الحقيقة بؤرةَ الظلم فانْجلى الحقُّ كالبدر مُكتملاً، أم أنك تحومُ حول الظالمين كما تحومُ النعجة حول ذئبٍ مُقيّد بالسلاسل؟ وهل تُخبّئ في ورقك ما تعجزُ عن بيانِه للناس خوفاً من لدغةِ أفعى أو سوطِ جائر؟ وهل أنتَ كما أنتَ بكل ما فيكَ حين تَحملُ القلمَ بين أصابعك؟ أم أنَّك تستعيرُ كينونَتك إلى حين حتى إذا انتهيتَ من كتابتكَ وفرغتَ من أفكاركَ عُدتَ أنتَ كما كُنت، وهل بمقدوركَ أن تضعَ النّقاط على الحروفِ حتى يكتملَ المَعنى ويَستقيم، أم أنّك من الذين يُحبّذون تركَ كَلماتهم بلا شكلٍ حتى لا يرسوَ مَعناها على وضعٍ ولا يهتدي إلى حال؟
وهل استيقظتَ فجراً والناس نيام؟ فتناولتَ قلماً وورقة، ثم بدأتْ أناملك تخطّ كلاماً صادقاً موجعاً عن موتِ الأطفال جوعاً والمتشرّدين برداً والضمائر استعلاء وكِبرا، وكتبتَ عن إبادةِ أوطانٍ وتهجيرِ أمم، وإقامةِ أوثانٍ وشراء ذِمم، وهل ابتغيتَ من وراءِ ذلكَ وجه الله تعالى؟ أم زاغتِ النيّة عن صفاءِ السريرة وإخلاصِ العمل، تلك هي محنةُ الكتابة وهمُّها ووجعُها وجُرحُها في أعماقِ النّفوس، فإن لم تكن ممّن فعلوا هذا أو ذاك فاهجرِ القلم هجراً ولا تقربه، أو ابحث لنفسك على من يرقيك من شيطان الكتابة، ولعلّ مرورك بمواقف إنسانية مرور الكرام، وسهوك عن ما يضر البلاد والعباد سهو الغافلين لا العارفين، وتلكؤك في إظهار مواقف ثابتة وآراء واضحة تدافع بها عن إنسانيةٍ أنت جزءٌ منها، تكفي هذه الأشياء أن تدفعكَ عاجلا غير آجل إلى تقديم اعتذار رسمي لسلطة القلم كي تخرج من دائرة الاتهام بأقل الخسائر، وتُخلّص ظهرك من عبء ثقيل أنت عاجز كل العجز على تحمّل تبعاته.
إنّك إذ تتّخذُ قرارك بأن تصاحب القلم وتلازم الورق في كل وقت وحين، كما يواعدُ العاشق عشيقتَه من حين لآخر، فإنك بذلك قد قطعتَ على نفسكَ عهداً مسؤولا بوقوفك إلى صفّ الإنسان جنباً إلى جنب، تحزن لحزنه، تغضَب لغضبه، تبكي لبكائه، تنزعج لمشاكله ومعاناته، إنك بذلك قد قرّرت أن تخوض صداقةً ثلاثية متوافقة بنكهة فريدة لا تشبه صداقات الآخرين، إذا غابَ طرفٌ من أطرافها تداعى له العقل كله بالعجز والكسل، إنك بذلك قد أقحمتَ نفسك في حيواتٍ عدة، ومتاهاتٍ عدة، ومتناقضاتٍ عدة، ومفترقاتِ طرق، غير أنك بقدر ما تخوض كل هذه الأزمات بحزمٍ وإرادة، بقدر ما تتذوّق حلاوةً عجيبة لم تكن لتتذوقها لو كنتَ سلكتَ غير هذا السبيل، وهنا تكمنُ محنة الكتابة، وهنا ينبثقُ جمالها ورونقها.

فهذه هي محنة الكتابة، وإن لم يمسسكَ شيءٌ من لَفْحها، فقد أصابكَ حتماً مَسٌّ من شيطانها.

الأحد، 12 نوفمبر 2017

حبيبتي التي لا تقرأ!


تنظر إلي باستغراب تارةً، وتارة أخرى بإشفاق حاد، وكأنها تلومني على أوقاتي التي أقضيها سجينًا بين دفتي كتاب، أو صفحات جريدة، فهي لا تقرأ، أو بالأحرى لا تقرأ بالقدر الذي يصنفها في خانة القارئات، وحين أسألها عن أشهر من كتبوا وتركوا آثارًا بعد رحيلهم لا تذبل ولا تمحى، تعرفهم بسيماهم واحدًا واحدًا، وقد تحفظ بعض مؤلفاتهم وتستظهر شيئًا من سيرتهم الذاتية، فأجدني مستغربًا لا أملك لذلك تأويلًا.
وهي لا تحب الشعر، ولا أفهم ذلك، وليس من سبيل إلى أن تحبه فيما بعد، وكأن الشعر بحكمته وبيانه ظل عاجزًا عن أسر قلبها وإخضاع ذوقها رغم أن فؤادها مليء بالحب، والحب لا يفارق الشعر إذا الْتقيا، أو بالأحرى هما معًا إلى الأبد. وهي لا تغوص في بحار الأدب ولا تناجيه، إلا من بعض ما مر عليها في سنوات الدراسة الأولى مرور الكرام، وهي تتذكره جيدًا وتنْكره، وتحن إليه وتنساه، وتحدثني عنه حديثًا طويلًا بلا طعم.
فلا تزهر القراءة بعلاقة حب من طرف واحد، ولا تصح أن تكون كذلك، فلغة الحب لا تسمى لغةً إلا إذا كان الوصال من جهتيه كاملًا بين المحبين، غير منقطع ولا ناقص، حتى ولو تولدت هذه اللغة من نبضات القلب، ووحي العشاق، وهمسات النفوس، تظل رغم صمتها من سحر لغات الحب، ولو غابتْ فيها الحروف والحركات.
وأكاد أشفق على حالها كونها لا تقرأ، وأتفهم أن الحياة قد سرقتْ منا لحظات جميلة، وأفراحًا عديدة، وقذفتنا في متاهات لا نكاد نتنفس فيها بالقدر الذي نحس فيه بوجودنا وانتمائنا لهذا العالم الفسيح، نبحث عن أنفسنا فلا نجدها، نسير وكأننا نصعد في السماء، لا نبلغ ما نصبو إليه أو يتخيل لنا ذلك، ورغم كل هذا، كيف أيها الإنسان أن لا تقرأ لتستفيد، فتضم عقلًا إلى عقل، وأملًا إلى أمل، وحياةً إلى حياة، تنسيك محاسن حياة نوائب أخرى، وتنسيك نوائبها ما أنت عليه من كبرياء وانكسار، فتهذب نفسك، وتعرف بها قدْرك، وترنو إلى حقيقة كنت تجهلها قبل عهدك بالقراءة، فتعتدل مقادير الأشياء في عقلك، وتتبدد الهموم كما تنقشع الغيوم، كنت أقول لها ذلك على مضض، كما أقوله لكم على ارتياح، وقد قلته لنفسي من قبل وقالوه لي فاقتنعت ورضيتْ، وما بلغ منها الرضا والاقتناع مبلغًا أبدًا ولا هز شعرةً واحدة من خاطرها.
لكنها تأبى وتخاف، وليس خوفها هذا إلا من كره تأصل منذ أول لقاء لها بالكتاب، كان لقاءً رهيبًا فيه من البكاء والصراخ ما فيه، جعله مريدوه هكذا حتى ينسج الخوف خيوط الرعب في عروق التربية، ويأكل من شخصية المتعلم كما يأكل السوس الخشب، ويزعزع من ثقته بنفسه فلا يبغض شيئًا بعد ذلك أشد من بغضه للكتاب، فيهجره في حياته إلى مماته، ثم إنك من كل هذا وذاك، كالطفلة المدللة تأبى أن تتعلم مبادئ القراءة والكتابة، وتخجل من أن تروض لسانها على مخارج الحروف وأبجديات الكلام، فتنصرف قانعةً إلى عالمها ولعبها كما تريد لهذا العالم أن يكون، بمحض إرادتها.
وإني لأشهد الله أني رغم كل هذا، لا ألومك!
فهي كالفراشة الطائرة، لا تكاد تبرح مكانًا حتى تنتقل إلى غيره في لهفة وحنين، ولا تقضي من الوقت في قراءة عابرة بين السطور مثلما تسرح حواسها أمام التلفاز أزمانًا طويلة، دون أن يصيبها لفح من عناء أو ملل، ودون أن تحتفظ في ذاكرتها بما يستحق البقاء، فالذي يقرأ لا ينسى، فكيف ينسى منْ حديثه من قلب إلى قلب، ومن وجدان إلى وجدان، ليس كمنْ يشاهد ثم يرمي كل ما شاهده وراء ظهره.
لكم أهوى أن ترافقيني إلى قمم الطبيعة، نتذوق فلسفة الكون، نغترف من كنوز التراث ودرر اللغة، نرتوي من معاني الفنون والجمال، نغوص في حكايات ألف ليلة وليلة، فننسلخ من واقعنا لنقبل على عوالم حاضرة نعيش فيها ما نعيش، ثم نعرج على عوالم أخرى من نسج الخيال ننسى فيها ما عشناه، وما كان وما ينبغي أن يكون، ويستمر هذا المعاش ما دامت صلتنا بالحرف قائمة، وعهدتنا بالقراءة باقية، إلى أن يفنى المداد من الأرض فتنتهي الحياة وتذهب ريحها.

عِبرٌ إنسانية في عبقرية بوبي فيشر

بوبي فيشر، الاسم الذي يتبادر إلى ذهنك بمجرد رؤيتك لرقعة الشطرنج، فهو أعظم من تربع على عرش اللعبة، تشعر حين تقرأ عن حياته وكأنه خاض فيها معركتين أساسيتين، معركة في فنون الحرب وتقنيات الهجوم، أبدع خلالها عقله العبقري في محاصرة خصمه داخل ساحة الشطرنج، ومعركة سياسية خاضها بسبب اتهامه بتقربه للشيوعية وكرهه الشديد للولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.
قد يحقق غيرنا ما نعجز نحن عن بلوغه، وهذه سنة الله في خلقه، لسنا مبدعين في كل شيء، ولا فاهمين لكل شيء، ولا محيطين بكل شيء، ولكن عجزنا على محاكاة الخارقين من البشر فيما أبدعه الله فيهم من نعم خاصة، لا يمنعنا من استنباط العبر التي رافقت مشوارهم الطويل نحو التميز، علينا أن ننظر إلى تجارب الآخرين من هذا المنطلق، فلسنا مجبرين أن نكون علماء متفوقين، ولا جهابذة عصرنا، لكن من الأفضل لنا أن نتعلم من تجارب أولئك الذين تكبدوا متاعب جمة في حياتهم قبل أن يصلوا إلى ضفة حلمهم.
لن أتحدث هنا عن مسيرة وإنجازات هذا الإنسان الأسطورة في لعبة الشطرنج، بل سأحاول أن ألقي نظرة على ما يمكن أن نستفيده من حياة فيشر لبناء مجتمعات سليمة مؤمنة كل الإيمان بقدرات أفرادها، تُرى كيف تفتحت هذه الوردة في شتاء مليء بالعواصف العاتية؟
ما عُرف على فيشر في بداية حياته أنه عانى كثيرًا في الدراسة، لم يكن موفقًا تمامًا، ولم يكن ذاك التلميذ النجيب الذي يواظب على مراجعة دروسه وإعداد تطبيقاته المنزلية كأقرانه، ورغم ذلك لم يتعرض لا للضرب ولا للإهانة، ولا لأي رد فعل من والديه عقابًا له على تأخره في دروسه وإهمالها، فقد ظهر ميوله إلى الشطرنج في سن مبكرة جدًا، ورغم أن الشطرنج مجرد لعبة لا غير قد يحتقرها البعض، ويستهزئ منها البعض الآخر، وقد يجدها الأبوان مضيعة للوقت، وهدرًا للجهد، وأداة شيطانية تعصف بمستقبل ابنهما المنتظر منه أن يصير شخصية مرموقة في المجتمع، قد نفكر نحن هذا التفكير السطحي لضيق أفقنا وخوفنا الكبير من بعبع اسمه المستقبل، غير أن والدة فيشر السيدة ريجينيا كان لها رأي مغاير تمامًا، فقد احترمت توجه ابنها وقدرت حبه وشغفه للشطرنج، ولم تقتل فيه الموهبة، هذه الأم التي لم يمنعها مانع من أن ترسم لابنها مسارًا علميًا مميزًا يلائم توجه الأسرة الصغيرة وتخصصها، خصوصًا وأنها امرأة مثالية مثابرة إلى حد بعيد، دفعها حبها للعلم والمعرفة إلى التدرج في وظائفها من معلمة مواظبة، إلى ممرضة محترفة، إلى طبيبة ماهرة في فترة كان العالم مشتعلًا بنيران الحرب العالمية الثانية ومقبلًا على الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، فتجاوزت كل هذه العقبات رغم الفقر، وظلت صامدة في مسيرتها العلمية والعملية تصارع التحديات وتراقب عن بعد موهبة ولدها بوبي وتحمسه، بل ونشرت إعلانًا في صحيفة محلية تبحث فيه عن متطوع يلعب مع ولدها لعبته المفضلة، بعد أن خشيت عليه مرض العزلة.
لم تفرض عليه أبدًا أن يبرع في الرياضيات ليصير مهندسًا ناجحًا، أو يتميز في علم الفيزياء، أو يتقن علوم الطبيعة ليكون طبيبًا مشهورًا، لم تطلب منه شيئًا من هذا القبيل، بل تركته حرًا طليقًا لنفسه وعبقريته يشق طريق تفوقه في لعبة؛ لعبة الشطرنج.
وسواء أكان والد بوبي هو باول نيمني كما أشارت التحقيقات، أو هانز فيشر غيرهارد المدرج في شهادة ميلاده، فكلاهما عالمان فيزيائيان كبيران، وقد نُصاب بالذهول كون أسرة يقودها أب عالم فيزياء متخصص، وأمٌّ طبيبة بارعة مُحبة للطب، يحترمان قرار ولدهما في تفضيل لعبة الشطرنج على أي شيء آخر، وهنا نطرح السؤال حول تقييمنا نحن في الدول العربية لميولات الطفل في صغره، وهل نأخذ ذلك بعين الاعتبار. لا أظن.
الإنسان الحقيقي لا يبحث عن الألقاب الرنانة، والمسميات عالية المقام التي يعتقد أنها تزيد من مكانته وهيبته بين الناس، فقد تُسجل اسمك في سجل التاريخ إلى الأبد بلقب «لاعب»، وقد ينساك الدهر ويمحوك النسيان من الذاكرة رغم أنك كنت تحمل من الألقاب أرقاها وأشهرها، وقد تتطور في لعبتك لاعبًا، إلى أن تصير أستاذًا محاضرًا في نفس اللعبة، تؤطر الندوات والمحاضرات في أشهر الجامعات الدولية، شأنك شأن أي أستاذ آخر في التاريخ والجغرافيا والعلوم والتكنولوجيا كما حدث مع فيشر، وقد تُبدع في ميدان من الميادين فتحبه وتفضله إلى درجة الجنون، لكن عشق الأشياء مهما بلغ حده عليه أن ينحنيَ احترامًا وتقديرًا لمرجعية الإنسان الدينية التي تعتبر هي جوهر وجوده في هذا العالم، فحب فيشر للشطرنج لم يمنعه من الانسحاب خارج التصفيات بمجرد تهاون المنظمين في احترام معتقداته الدينية التي تمنعه من اللعب أيام السبت من كل أسبوع، ولم يجد في ذلك أي إحراج أو تردد في الانسحاب من البطولة بهدوء وإنسانية.
لم يكن فيشر يكره شيئا أشد من كرهه للسياسة أم المصائب، وقد عانت أسرته من ويلاتها أشد العناء، فهاجرت من بلد إلى بلد هروبا من صراعات الحروب، سلبت منه السياسة حقه في التنقل بحرية للمشاركة في بطولات دولية مختلفة، وأحاطت تحركاته بسياج محكم من المراقبة والتهديد بالاعتقال، فكان يُمنع من المشاركة في الملتقيات التي تقام في بلدان تعتبرها الولايات المتحدة الأمريكية من بقايا الاتحاد السوفيتي، وصدرت مذكرة اعتقال في حقه حين تمرد عشقه للشطرنج على قيود الحدود والسياسة فلعب ضد سباسكي في يوغوسلافيا، وامتدت أيادي السياسة إلى رقعة الشطرنج نفسها، فلم يسلم من مكائد حِيكت ضده في بطولات عدة.
علينا أن نتعلم من حياة العبقري فيشر أعظم لاعب شطرنج في التاريخ أن الفشل ليس نهاية المطاف، ابحث في نفسك على ما يُميزك عن غيرك، لا بد وأن تجدَ ما هو فريد من نوعه، إن فيك من المميزات والمهارات الخاصة ما يتمنى غيرك الظفر بها، لكنك وللأسف لا تلتفت ناحيتها، ولا تعيرها اهتماما، وقد تعترضكَ عوائق ومشاكل بالجملة تُضعف عزيمتك وتُنهك طاقتك، غير أن الإصرار هو ما يجعل للحياة طعما مختلفا في كل مرة نشعر فيها بخيبة أمل، وتبقى اللحظة التي ستتذكر فيها هذه السقطات آتية لا محالة، حينها ستبتسم بمكر لتواجه القادم بثقة أكبر واستعداد للمواجهة. المبادئ الحقيقية تبلورُ شخصية غريبة على المجتمع، تجعل الإنسان مضطرا لتقديم تنازلات مرّة خضوعا لإملاءات الظرفية، إلا أنها تؤول إلى أعداء النجاح بطعم العلقم لتبقى المبادئ هي المنتصرة في نهاية المطاف، ولا تعتقد أن بعلمك وثقافتك ستصل الغاية المثلى، أو بعدد الجوائز التي حصلت عليها في مسيرتك المهنية والعلمية، بل بمواقفك، وثق أنك لن تحصل على جائزة إلا بموقف اتخذته كان هو الدافع الأكبر الذي دفع جهة ما لمنحك الجائزة، واعلم أن النجاح من أول وهلة هو بمثابة فشل صامت، وأن الفاشل المثابر هو من يحقق في النهاية المعجزة الكبرى، فقد تقضي حياتك كلها تلهث وراء منصب، وتجري خلف جاه، وتسعى للنجومية، ثم لا يكون لك من كل هذا نصيب، قد يأتي ولد صغير بما يبهر، فيصبح بين ليلة وضحاها حديث العالم كله، وليس النجاح أن تأخذ صورا تذكارية وأنت تتسلم الجوائز والميداليات، وإنما النجاح بما ستَحكمُ عليكَ الأجيال القادمة، لأن الأجود يبقى ويعيش، أما المزين المنمق فيموت وتذروه الرياح.

على مدونات الجزيرة

قائمة المدونات الإلكترونية