الأربعاء، 29 نوفمبر 2017

خيري شلبي صوتُ المهمّشين والمحرومين


خيري شلبي الأديب المصري الكبير والقصّاص البارع المتمكن، يُعدّ من أكبر ما أنتجته مصر في مجال القصة والرواية، عُرف بكثرة إنتاجاته وإسهاماته المميزة في عالم الأدب، كان دائما لديه ما يَكتب، فالكاتب الحقيقي المُنغمسُ في شرايين المجتمع والمتشبّع بمشاكله وآفاته، دائما ما يجد نفسه جزء من هذه المعاناة، وطرفا مندفعا في صراع الخير والشر الأبدي.
  
يُصارع بقلمه ومداده كما يصارع الآخرون بظلمهم وطغيانهم، وقد كان خيري شلبي من هؤلاء، نَقلَ معاناة الناس في رواياته بتفاصيلها ودقائقها، وصوّر بإبداعٍ فذّ حقبةً زمنية قاسى فيها المجتمع المصري والعربي على حدّ سواء من شظف العيش وقهر الاستعمار وتفشّي أمراض الجهل والبطالة والتخلّف، حتى لُقّب بالمُدافع عن أحلام الفقراء وحامل صوت المقهورين والمُعذَّبين في الأرض.
  
وقد يرى البعض أن الكاتب أو الروائي يعيش في برجٍ عاجي، ينفردُ بنفسه في عالمه الهادئ بمنأى عن المجتمع وما يَغلي فيه، فلا يراهُ إلا بمنظارٍ على مسافة بعيدة دون أن يقتربَ منه ليذوقَ ما يذوقُه الناس وهُم يتقلّبون فيه يميناً ويساراً كما تُقلَّبُ الشاة على جمر السفّود، وهذا غير صحيح، فقد كان خيري شلبي يؤكد دائما على أن الكاتب أصيل المعدن عليه أن يكدح في الحياة قدرَ ما يستطيع، ينزل إلى الميدان مُشمراً على ساعديه ليشارك الناس مشاكلَهم وأحزانَهم وهمومَهم عن قُرب، فيجالس سكان القبور والعشوائيات ويتحدث إلى البسطاء والمحبطين والمنسيين في حُفَر المناجم وكُهوف الجبال كواحد منهم، ولا تقتصرُ كتاباته فقط على الذاكرة، لأن الذاكرة حسب رأيه لا تُنتج أدباً رفيعا.
  
والكاتب الحقيقي لا يسعى لحياة الرفاهية من كتاباته، ولا يجلسُ على كرسي مكتبه جلوسَ المُستريح المتكبّر يطمحُ للشُّهرة والألقاب وعَقْدِ النّدوات واللقاءات بين الفَينة والأخرى، فليست هذه الأمور رسالته في الحياة، وليس هذا سبيله إلى حملِ لَقَبٍ كبير يُثقل كاهلَ حَامله.
يقول خيري شلبي : "بدأتْ مرحلة التشرّد الحقيقي منذ خروجي من البيت، كانت تجربة من أقسى ما يمكن أن يتحمّله بشر، رجلٌ يمشي ليلاً ونهاراً دون توقف بلا نقود ولا وِجهة، فطالما لا تملك نقودا في جيبك، لن يفتح لك الباب أحد أو يستقبلك ولو كان أخاك!"، حمل تاريخا ثقيلا على أكتافه منذ نعومة أظفاره، جسّد تجاربه ورحلاته في رواياته وقصصه بأسلوب ساحر مشوّق دقيق السرد صادق التعابير، وخيالٍ واسع يسبحُ عبره في عوالم مختلفة من صُنعه وإبداعه موظفا شساعة ثقافته وإلمامه بجُلّ الفنون، تحسُّ في كتاباته وكأنه يحمل همَّ أمة كاملة على عاتقه، إذ تنبعثُ كلماته من صميم قلبه مُلتحّفة برداء الألم والحسرة على واقع كل إنسان يعاني القمع والتهميش في كل مكان.
فعلا، فكتابات خيري شلبي لعقود متواصلة لم تحدْ شبرا عن نقل الواقع الاجتماعي المزري الذي عاشه الإنسان المصري تحديدا في حِقبة عبد الناصر، كان صوتا للشباب المغلوب على أمره تحت جبروت التحكم والفقر والبطالة، صوتا للمشردين الفاقدين طعم الحياة، صوتا للعمّال والبسطاء والمهمشين المكابدين عناء الزمن وأثقاله، صوتا حازما ضد الفساد بكل طعَناته وأنيابه، لا تشغله الجوائز والمناصب والألقاب بقدر ما تهزّه معاناة من حوله، ولا يحزنُ إذا وَجد أعماله لا تحظى بالدعاية الإعلامية كما يحصلُ مع غيره من الكُتّاب بقدر ما تشدّه مِحن المجتمع وإرهاصاتُ التجارب الإنسانية.

هي معاناةٌ مريرة تلك التي عاشها خيري شلبي في طفولته، ولكم أن تتخيّلوا كيف لطفلٍ صغير يُتابع دروسه في الكُتّاب أن يُطرد من البيت ويُمنع من دخوله والاتّصال بأمّه وإخوانه، لا لشيءٍ سوى لأن أباه توصّل بكتابٍ مفادُه أن ولده قد غاب عن حضور امتحان، إذ كان خيري شلبي الصغير في قمّة الانشغال بالقراءة والتهامِ الكتب والمخطوطات القديمة، بينما أقرانه في سنّه منشغلون في اللّهو واللعب بما تيسّر لهم من وسائل بدائية، تلك العادة التي استحوذتْ على فكره ووقته وتغلغلتْ إلى أعماقه ووجدانه فكانت وبالاً عليه.
      
وَجدَ نفسه فجأة وحيداً في الشارع، لا مَن يرقُّ قلبُه له ولا مَن يمسحُ الدمعة مِن على خدّه، ولا مَن يُفضي إليه بذات صدره وانفطار قلبه على فراق أسرته وحضن أمّه الدافئ في ليالي البرد، وكأنه اقترفَ من الجرائم أفظعها وأعتاها. لم يجدْ خيري شلبي بعد ذلك من سبيلٍ سوى أن يُطلق العنان لقدميه تَهيم به من شارعٍ إلى شارع، ومن دربٍ إلى درب، ومن بابٍ إلى باب مثقلةً بوحدته ومصابه لعلّه يجد من يُقدّر حكمته وموهبته ويُحيِي من جديد أمله في الحياة.
         
ترك إرثاً أدبياً ضخما من رواياتٍ ومجموعات قصصية ومسرحيات ودراسات ومقالات أثْرت المكتبة الثقافية العربية، وقلّما وصل كاتبٌ لمثل هذا العطاء الوفير على امتداد حياته الأدبية، نالت روايته وكالة عطية على جائزة أفضل رواية لسنة 1993، كما توج مسيرته الطويلة بجوائز عديدة كجائزة الدولة التشجيعية سنة 1991 ووسام العلوم والفنون وغيرهما، ورغم أنه رُشّح من مؤسسة امباسادور الكندية للحصول على جائزة نوبل للآداب، إلا أنه لم يظفر بها في النهاية، بل لم يُعرْ لها اهتماما يُذكر، قال بشأنها "يقنع واحد مثلي أنفق حياته في الكتابة أن يجد في النهاية أصداء طيبة لما بذله من جهود، والقارئ مرتبط دائما بما يشعر أنه صادق وأمين مع التجربة الإنسانية".
  
قلّما تجد كاتبا معروفا مثل خيري شلبي نزّه نفسه عن الخوض في أتون السياسة المتعفّنة وسيرتها الملوثة بالنفاق والمصلحة، بل ظل وفيّاً قيد حياته لرسالة قلمه المبدع في الكتابة، المُرهف الأحاسيس الصّادق المشاعر، هذا هو خيري شلبي لو حصل على كل جوائز نوبل للآداب مجتمعة لن يُوفيه ذلك حقّه تجاه ما أسهم به في سبيل الإنسانية مثقال ذرّة واحدة، ولو وُضعت أعماله في كفّة وأكاذيب السياسيين المُنمّقة في الكفة الأخرى لرجحت كفته مباشرة دون عناء.
      
ثم إن الجوائز لا يحصدها أصحابها إلا بمواقف اتخذوها تماشت وتناغمت مع توجهات أصحاب العطاء٬ وإلا فلن تُعلّق أسماؤهم في لائحة المُتوّجين حتى يلجَ الجمل في سمّ الخياط٬ ولا حلمهم بالجائزة قد تحقق ولا مُناهم بالوصول قد بلغ٬ وهل يقاس عطاء إنسانٍ بورقة تقديرٍ تُسلّم من حفنة مثقفين؟ أم يقاس باقتناع الكاتب الشخصي ورضاه الداخلي بما قدّم ونفع؟ يستمده من تقدير المحيطين به والقادمين من بعده من مختلف الانتماءات والجنسيات. "رحم الله خيري شلبي".


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

قائمة المدونات الإلكترونية