الأحد، 19 نوفمبر 2017

بين محنة الكتابة وشيطانها


ما معنى أن تكتب؟ وما معنى أن تُهيّئ القلمَ والورق والأفكار فيبدأ تَلاقُحها حتى ترى البياضَ وقد امتلأَ حُروفاً، والرأسَ وقد فرغَ من هيجانه وطقطقاته، ثم تستسلم لتُكملَ ما بدأتَ فيما بعد، أو تُنهيهُ حين تَرى أنَّ ما من شيءٍ تُضيفه أكثرَ مما قُلت، فتعيدُ قراءة نصّكَ في المرة القادمة وقد تُضيف إليه ما خطرَ على بالكَ في لحظةٍ ما، أو تُلغيَ منه ما لم تَطبْهُ نفسك وتستسغهُ قِراءتُك.
تلك هي عادةُ الكتابة، وإنْ كانت الطُّرق تختلفُ من كاتبٍ لآخر، لتُشكّلَ عند البعض ما يُشبه طُقوساً غريبةً يستهلّون بها خطوة الإبحار في عالم الفكر، وقد يغرقُون سريعاً وتتيهُ شِراعُهم بلاَ وِجهة مُحدّدة إن غابَ مظهرٌ واحدٌ من مظاهر طُقوسهم وعاداتهم.
فالكتابةُ قلمٌ وورقةٌ وأفكار، فإذا غابَ القلمُ ضاعت الأداة، وافتُقِر إلى المُنقذ المُخلّص الذي يَنثرُ من الرأس ما تتلقّفه الورقة فتحضنُه حُضنا، كالذي يُحرّكُ شجرةَ زيتونٍ ثم يَرى ما يَسقط منها على الأرض فوقَ البِساط، وإذا غابتِ الورقةُ ضاعتِ الفكرة وتلاشت أطيافُها في غَيَبات الفِكر، لن تستطيعَ المسكَ بِطرفها أو اللّحاق بِطيفها المتبدّد ولو حاولت، كالتي تخبزُ خُبزا فلا تجدُ من خشبٍ تُدخل بهِ خُبزها إلى أغوارِ الفرن لتُخرجه منه بِخشبِها المفقود وقد استوى ونَضَج، وإذا غابتِ الأفكارُ وحضرَ الورقُ والقلمُ فكأنهما حضرا إلى ملعبٍ لا تُقام فيه مباراة، ولا يُرَى فيه جُمهور، فجلسَا شاردين وكأنّهما تمثالان لا روحَ فيهما ولا جمال، فجمالُ القلم حين ينتصبُ قوامُه شامخاً ورحيقُه يسيلُ بين الأنامل، وجمالُ الورقة حين تُنقَشُ الحروفُ بين ثَناياها وتُزخرَفُ الكلمات فوق سطورها لتبدوَ كالعروس الغرّاء في ليلة زفافها.
وأنت تفكّرُ وتنقّبُ في أفكارك لتُخرج منها ما يطيبُه فؤادُك ويُريّحُ ضَميرك، يُراودك فجأةً شيطانُ الكتابة من كل ناحية، فيدفعُ بفكرتكَ يميناً وأنتَ تَشدّها شمالا، ويشوّشُ على مَعانيها في عَقلك تشويشاً يُلبسها لباسَ الغُموضِ والإبهام، وقد أردتَ منها الوضوحَ والبَساطة، ويَجرّك غصباً إلى وجهات نظرٍ لم تتبنّاها يوماً ولم تكن قط من بناتِ أفكارك ومبادئك، وقد ترضخُ أخيرا وتستكين إن احتواك شيطانَ الكتابة وغلبك ولعُ الكلمات على صرخة الضمير.
هذه محنة الكتابة وضريبتها، فهل قُلتَ ما يَنبغي أن تقولَهُ في قضية عادلة، لتَنتصرَ لمظلومٍ أو ترد كيدَ ظالم؟ وهل دفعتَ البأس عن أولئكَ الذين يتمنَّونَ أن يُدفعَ بأسُهم وتَظهر حقيقُتهم ولو بجرّة قلم؟ وهل تقاومُ أفكارُك شيطانَ الكتابة كما تُقاوم جوارحُك غواية إبليس اللعين؟ وهل يذرفُ قلمُكَ مداد الحزن والأسى كما تذرفُ الثكالى دموعَها وهي تودّع فلذات أكبادها المغدورين؟ وهل أصبتَ بقلم الحقيقة بؤرةَ الظلم فانْجلى الحقُّ كالبدر مُكتملاً، أم أنك تحومُ حول الظالمين كما تحومُ النعجة حول ذئبٍ مُقيّد بالسلاسل؟ وهل تُخبّئ في ورقك ما تعجزُ عن بيانِه للناس خوفاً من لدغةِ أفعى أو سوطِ جائر؟ وهل أنتَ كما أنتَ بكل ما فيكَ حين تَحملُ القلمَ بين أصابعك؟ أم أنَّك تستعيرُ كينونَتك إلى حين حتى إذا انتهيتَ من كتابتكَ وفرغتَ من أفكاركَ عُدتَ أنتَ كما كُنت، وهل بمقدوركَ أن تضعَ النّقاط على الحروفِ حتى يكتملَ المَعنى ويَستقيم، أم أنّك من الذين يُحبّذون تركَ كَلماتهم بلا شكلٍ حتى لا يرسوَ مَعناها على وضعٍ ولا يهتدي إلى حال؟
وهل استيقظتَ فجراً والناس نيام؟ فتناولتَ قلماً وورقة، ثم بدأتْ أناملك تخطّ كلاماً صادقاً موجعاً عن موتِ الأطفال جوعاً والمتشرّدين برداً والضمائر استعلاء وكِبرا، وكتبتَ عن إبادةِ أوطانٍ وتهجيرِ أمم، وإقامةِ أوثانٍ وشراء ذِمم، وهل ابتغيتَ من وراءِ ذلكَ وجه الله تعالى؟ أم زاغتِ النيّة عن صفاءِ السريرة وإخلاصِ العمل، تلك هي محنةُ الكتابة وهمُّها ووجعُها وجُرحُها في أعماقِ النّفوس، فإن لم تكن ممّن فعلوا هذا أو ذاك فاهجرِ القلم هجراً ولا تقربه، أو ابحث لنفسك على من يرقيك من شيطان الكتابة، ولعلّ مرورك بمواقف إنسانية مرور الكرام، وسهوك عن ما يضر البلاد والعباد سهو الغافلين لا العارفين، وتلكؤك في إظهار مواقف ثابتة وآراء واضحة تدافع بها عن إنسانيةٍ أنت جزءٌ منها، تكفي هذه الأشياء أن تدفعكَ عاجلا غير آجل إلى تقديم اعتذار رسمي لسلطة القلم كي تخرج من دائرة الاتهام بأقل الخسائر، وتُخلّص ظهرك من عبء ثقيل أنت عاجز كل العجز على تحمّل تبعاته.
إنّك إذ تتّخذُ قرارك بأن تصاحب القلم وتلازم الورق في كل وقت وحين، كما يواعدُ العاشق عشيقتَه من حين لآخر، فإنك بذلك قد قطعتَ على نفسكَ عهداً مسؤولا بوقوفك إلى صفّ الإنسان جنباً إلى جنب، تحزن لحزنه، تغضَب لغضبه، تبكي لبكائه، تنزعج لمشاكله ومعاناته، إنك بذلك قد قرّرت أن تخوض صداقةً ثلاثية متوافقة بنكهة فريدة لا تشبه صداقات الآخرين، إذا غابَ طرفٌ من أطرافها تداعى له العقل كله بالعجز والكسل، إنك بذلك قد أقحمتَ نفسك في حيواتٍ عدة، ومتاهاتٍ عدة، ومتناقضاتٍ عدة، ومفترقاتِ طرق، غير أنك بقدر ما تخوض كل هذه الأزمات بحزمٍ وإرادة، بقدر ما تتذوّق حلاوةً عجيبة لم تكن لتتذوقها لو كنتَ سلكتَ غير هذا السبيل، وهنا تكمنُ محنة الكتابة، وهنا ينبثقُ جمالها ورونقها.

فهذه هي محنة الكتابة، وإن لم يمسسكَ شيءٌ من لَفْحها، فقد أصابكَ حتماً مَسٌّ من شيطانها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

قائمة المدونات الإلكترونية