الأربعاء، 22 أغسطس 2018

بين الكاتبِ وما يَكتُب!


إنها قصة عجيبةٌ تلك التي تجمع بين الكاتب وكتاباته، قصة وإن حُدّدت شخصياتها إلا أن مضمونها لا يبرح ينمّ عن غموض صاحبها، فهل تعكس كتابات الكاتب شخصه الحقيقي؟ وهل هي جزءٌ من تركيبته النفسية والذهنية؟ وهل يطمح الكاتب بكلماته رسم عالم وردي يتمنى أن يراه في الواقع وينعم فيه؟ أم يهربُ من سلبياته فيحاول وصف علاجٍ فعالٍ لها في غيره؟ أم هو يعرض  ايجابياته محاولاً تكريسَها في المتلقي؟ أم هي عواطف ومتمنيات تصدر من أعماق نفسه المتألّمة ليَحصد بها الشفقة والحنوّ، أم هو صراع الخير الذي يحاول به كبح جماح شرارة الشر المتجذرة فيه،  أم أن الكاتب لا يعدو أن يكون ذاك الخيال المحلّق الذي تارةً يبدو نبيّاً ممجّداً وتارة متمرداً على كل القيم والأعراف.
يحدث أن تُقبل على كتابات أحدهم بنهمٍ كبير، فتصل الليل بالنهار تلتهم الصفحة تلو الأخرى حتى تتورّم عينيك، تشدك أفكاره النيّرة السابحة في بحرٍ من المبادئ والأخلاق والمُثل، ويسحبُك تعبيره المتناسق الغارق في معاني الفضيلة والسموّ، ويحدث أن تُصادف في نفس الفترة نفس الكاتب على فضائية من الفضائيات لكنّك لا تعثر فيه لا على مُثلٍ ولا على قيمٍ ولا على مبادئ، وإنما جثّة منبطحة على أريكة فخمة ترى نفسها الوحيدة من بين كل الخلائق الأخرى من أُوتيت منذ صباها فطنةً حادة، وذكاءً متوقداً، وعلماً منقطع النظير، وكانت تقرأ باستمرار أمهات الكتب والمراجع منذ أوّل عهد لها بالقراءة، وانكبّت على الدراسة والتعلم الذاتي في شتى العلوم والمدارك، وكانت الأولى على دُفعتها وتفوّقت على أقرانها تفوقاً شاسعاً، فجُعلتْ هذه الجثة المتكلمة على رأس الخلائق كلها، وجُعلت الخلائق من أسفلها.
يحدث أن تصادفَ ذلك، لكن المؤسف أن صورة هذا الكاتب تضمحلّ أمامك كما يضمحلّ زبد البحر بعد ارتطامه بالصخر، فتحسُّ بشساعة الهوّة بين ما تخطهُ يداه في الأوراق وبين ما تنثرهُ نفسه المريضة إلى الخارج، وكأن أغشية معتمة كانت تحجبُ الرؤية عنك فتبدأ في الانكشاف مثلما ينكشف الصباح من ظلمة الليل، حتى تُقسِم أنك لن تعود إلى حرفٍ واحدٍ مما يَكتُب، ويحدث أن تسمع الكثير من اللغو والكلام القبيح في شخصِ كاتب، حتى تتشكّل في ذهنك صورة قاتمة عنه أشدّ من سواد الليل الحالك، وتُشوَّه ملامحُه تشويهاً إلى أن يصير شبحاً تهرب منه أنّى سمعتَ سيرتَه، ويُكفَّر حتى يُخيَّلُ إليك أن ما من كافرٍ غيرهُ فوق الأرض، ويحدث أن تُصادف في قناة من القنوات حواراً معه، فتتراجعُ وتنفرُ منه، إلا أن شغفكَ يجذبكَ ليقهر الخوف في داخلك، ثم لا تلبث أن تجلسَ لتسمعَ له وتتأكدَ بنفسكَ من كل ما قيلَ لك عنهُ ونَقلته أنتَ للناس، فإذا بصاحبنا أصيل المعدن، ليس لأنّه كاتب، ولكن لأن تواضعه ونقاوة قلبه صنعت منه كاتباً فذّاً مستحَقَّ اللقب، فيُسألُ ويُجيب، وكأن كلماته تخرج كالأصداف اللامعة ليُحدث انسيابُها موسيقى عذبة تطمئن نفسُكَ لها، وتقرأ في نبراتها آياتِ الصدق الدفين، كيف كنتُ غافلاً حينما آمنتُ بما آمنَ به الآخرون بحكمهم المجحف على كاتبٍ كهذا؟ إنه صادق فيما يقول وباطلٌ ما يقولون، إن كتاباته تعكس شخصيته حرفاً بحرف وكلمة بكلمة، وإن إنسانيته تتدلّى الآن أمامي كما يتدلى عنقود العنب الممتلئ من غصن الكرمة، وهي كذلك كما كان يرسمُها بطرف قلمه، لا تزيد ولا تنقص، غير مزينة بأكاليل زهور الأقحوان والبنفسج، إن العوالم التي تحدّثَ عنها في قصصه ورواياته هي نفسها التي ينعكس صداها الآن في مُقتلَه، وإن الرحمة التي طالما خطتها أنامله في أحداث ومواقف هي نفسها ما تُعبّر عنه قسماتُ وجهه وتعبيراته، وإن الحب الذي طالما تغنّى به بين الحبيب ومحبوبته والأم ووليدها هو نفسه الحب الذي يتساقط كالشهد من شفتيه المتشقّقتين، وإن الألم الذي فاض من قلبه على ضفة الإنسان هو نفسه الهمّ الذي يفصل بين كل كلمةٍ وأخرى مما يلفظُ لسانُه، لم  يكن أبداً ذاك الشخص الذي تحدثوا عنه بغلٍّ ووصفوه بحقد، ولعلّ الغلّ هو من كان سبباً في هذا السور العظيم بيني وبينه، وبيني وبين كثيرين مِثله.
إن الكاتب الحقيقي لا يتخذ الكتابة عرشاً عاجياً يرى منه نفسه فوق كل الخلائق، فيصيبُه مرضُ التكبّر ويستهويه اللّقب، فإن كَتبَ خيراً فالأَوْلى أن يكون من أهله، وإن دعا لنصحٍ فالأجدر أن يتّبع أثَره، وإن وصف شرّاً أو طبعاً منفّراً فالأفضل ألا يكون من  أتباعه، فهو في هذا المقام مصدر الثقة ومنبع الفضيلة.
والكاتب المزيّف هو من تتحطّم كل اللوحات الفنية التي رُسمت له بمجرّد أن يتفوّه بجملةٍ واحدة، فالأفضل لك ألاّ تعرفه وألا تعرف سيرته، وألاّ تثق به أو تُجلّه، بل قدّر فقط قيمة القلم في يده واحترم مداده الذي طالما قدّسه الناس وعبدوه، والأفضل لك أن تغوص في عوالمه الجميلة المشيّدة خلف واقعٍ آخرٍ من العجرفة والتصنّع، ولا تهجر كتاباته فقد تكون عصارةً معقدة لحياةٍ حُبلى بالصدمات ونكران الجميل، جعلتْ منه مريضاً مكرهاً ذَا شخصيتين يجد أحلاهما فيما يكتبُ لا فيما تتجلّى للناس، فتكون بذلك أنتَ الإنسان الحقيقي وهو بقايا إنسانٍ تُحاول التشكّل!
فقد لاقت كتاباتُ نجيب محفوظ على سبيل المثال انتقاداً واسعاً ممّن يفهمون صنعة الأدب وممّن يجهلونها على حدٍّ سواء، فقذفوه بالكفر، واتّهموه بتدمير الأجيال الصاعدة وحثّها على الرذيلة والانحراف، لكنك إن استمعتَ لمجالسه وحواراته ورأيتَ تقرّبه وتذله  للناس، لوجدتَه من أطيب خلقِ الله، ولن تتخيّل سعادته بمقابلة مُحبيه وطريقة تحدثه مع وسائل الإعلام بعيداً عن الأنة والتكبّر وهو صاحب جائزة نوبل للآداب أعظم جائزة أدبيةٍ على الإطلاق، في حين تجد غيره ممّن تقمّصوا دور الكاتب لا يتعاملون بلطفٍ مع العامّة، ولا يُعيرون اهتماماً للإعلام الهادفِ ناهيك عن مَشيهم مشيةَ الطاووس ورفعِهم للصوت كزئير ملِك الغاب، رغم أن إنتاجاتهم الأدبية الرديئة قد لا تتعدّى مقدمةً كتَبها نجيب محفوظ أو غيره ممن يُشبهونه، أو قصيدة واحدة لنِزار قبّاني خطها في مقتبل شبابه.
قد تجد كاتباً متخصصاً في قصص الرعب يخاف من خَياله، وقد تجد في قصصِ كاتبٍ اشتُهر بشجاعته ومواقفه الكثير من بالجُبن والخذلان، وهذا لا يُفسد عمله بقدر ما يفسدُه كذبُه إن هو كتب صدقاً ووفاء، وتلوّنه إن هو كتب ثباتاً وصبرا، ووقوفه مع الظلم إن هو أظهر الحق ودعا إليه، فكل هذا لا يستقيم ولقبُ الكاتب قد حُمّل على عاتقه، فيموتُ قبل أن تموت كتاباته، أما الكاتب الذي يعرف قيمته ومكانته وإن مات في شخصه، إلا أن كتاباته تشهد له بالحياة!

الأربعاء، 8 أغسطس 2018

قيمة المناظرة في إثراء الفكر الإنساني

الحوار الفكري البناء هو الذي يرفع مستوى النضج الإنساني لينعكس إيجاباً على مختلف المجالات، هو البوصلة التي تحمي البشرية من الانسياق نحو طريق الهاوية، هو الذي يفتح شهية النخبة المثقفة لتُفصح عن أفكارها ورؤيتها الخاصة لماهية الأمور من حولها، هو الذي يُعبّد الطريق لفكّ طلاسم الخلافات الفكرية والعقبات الإنسانية التي تقف سدّاً منيعاً في وجه أي تقدم منشود، هو القارب التائه في عرض البحر يدنو شيئاً فشيئاً نحو ضفة الحقيقة، هو الذي يُشعر الإنسانَ بوجوده ويضمن له بقاءه، هو الذي يُثمّن قيمة ما يملكه الإنسانُ حتى يكتشفَ به ما لا يمتَلك، وهو ردُّ فعلٍ طبيعيٍ مواكبٍ لتغيرات المجتمعات الإنسانية وتعاقب الحضارات، فالركود الفكري لا يمكن أن يوصل سوى إلى واقعٍ من الانغلاق والعدمية، وإذا كنتَ لا تريد فكر الغير المغاير لفكرك، فأنتَ بذلك تحكم على فكرك بالإعدام والتلف قبل أن تُصدر أحكاماً على مخالفيك.
وعندما نقولُ الحوار البناء، فالمقصود هنا الحوار المُفضي إلى نتائج مقبولة ومعقولة، مع تجنّب النقاشات البيزنطية العقيمة، يُقال أنّ من بين أسباب سقوط الإمبراطورية البيزنطية دخول رُهبانها في نقاشاتٍ لا تُجدي نفعاً كمسألة ما إذا كانت الملائكة ذكوراً أم إناثا، وحول من وُجدت قبل الأخرى الدجاجة أم البيضة وما إلى ذلك....
لا ترفض فكرة أي شخصٍ مهما كانت، لأنها لا تعدو أن تكونَ استفزازاً لمبادئك وأفكارك، وهنا تكمنُ قوّة المحاور، وهنا يقوى ردّه قبل حتى أن يبدأ بطرحه، ورفضكَ للفكرة هو إيذانٌ بعجزك عن كشفِ افترائها وهو هروبٌ من مواجهتها وبالتالي انتصار صاحبها عليك، أما إذا صرّحتَ بعدم قدرتكَ على مناقشتها مع تقبّل طرحها بكل احترامٍ وإيحالها على الجهة المختصة الموكل لها النظر والحكم، فأنتَ بذلك قد أبنتَ عن موقف المخلصين لقيمة العلم وقدسيته، ويبقى المهم في نهاية المطاف أن النقاش قد يُثير العديد من ركائز البحث، ويُؤسس لقاعدةِ التقارب، ويُلهب شففَ المعرفة، ويُشكل مادة دسمة للباحثين المتخصصين، وربما يكشفُ بعض نقاط التلاقي أيضا.
فدخول مقام النقاش يقتضي بادئ ذي بدءٍ تقبل الفكرة المحورية، بمعنى الإنصات لها وعدم احتقارها وسبّ صاحبها وهذا دليل على نضج ورقيّ المحاور، فلا أحد يملك الحقيقة المطلقة سوى الرسل والأنبياء، ولا أحد من البشر معصوم من الزلل سواهم، لأن القاضي النهائي هو الله سبحانه وتعالى، ونحن لسنا مجبرين على إقناع الآخر والاستماتة في ذلك، أو الاقتناع منه والاستسلام له، قال تعالى: "لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدي مَن يَشَاء"، فالهداية هداية الله، والاقتناع هبة منه سبحانه، ولا تظن أن الناس تقتنع لأول وهلة، وبعد كل مناظرة، ولكن الأمر يتطلب صبراً طويلاً وليناً كبيرا، فرسالة محمد كانت حملاً ثقيلاً على كاهل بعض صناديد قريش، فكونها ساوت بين الغني والفقير والسيد والعبد والأبيض والأسود جعل من الصعب عليهم تقبّلها والانصياع لها، وإنما احتاج الأمر مع بعضهم إلى زمن طويلٍ فتح المجال أمامهم لمراجعة أفكارهم ومعتقداتهم وإعمال عقولهم وضمائرهم، فما كان عليهم إلا أن أسلموا لله بعد ذلك من تلقاء أنفسهم. قال تعالى: "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ".
إن حضارة المسلمين كانت حبلى بالنقاشات الدينية، وقد اعتبرت العِرق النابض لهذه الحضارة، وعلى إثرها أُسّست العديد من الفرق والنحل والجماعات وذاع صيتها، وكتبت مجلداتٌ لا تعدُّ ولا تحصى أثرت المكتبة العربية الإسلامية، ولم تكن تُعتبر من الحرام يومها وإلا نفرَ الجميع منها، ومن بينها مناظرة عبد الله بن عباس للخوارج حينما خرجوا على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبين الشيخ السلفي المعروف ابن تيميه المتمسك بالكتاب والسنة والإجماع، وبين الشيخ أحمد بن عطاء الله السكندري من كبار علماء التصوف، وحدثت هذه المناظرة التاريخية في عصر الملك الناصر محمد بن قلاوون بسبب ظهور أشياء عند الصوفية فيها استخفاف بأداء العبادات كما كان يرى الطرف المقابل. وجرت مناظرة بين بن تومرت وفقهاء دولة المرابطين بالمغرب الأقصى، وذلك بأمر من والي المدينة فتفوّق عليهم، ولم يجد الوالي إلا أن يطرده من فاس، فمضى إلى عاصمة البلاد مراكش، وهناك عاود مناظرة فقهاءها ثانيهً فغلبهم مرة أخرى، فطُرد أيضا من المدينة، وذهب إلى أغمات ثم إلى قريته بالسوس الأقصى، واستقرّ هناك رغم أنه ادعى المهدوية. ومن أشهر المناظرات كذلك مناظرة أبو عبد الله حسين بن منصور الحلاج مع محمد بن داوود قاضي بغداد،  لكنها انتهت مع الأسف بصلبه بباب خراسان علي يدي الوزير حامد بن العباس في أفظع نهايةٍ تعرفها مواجهة بين آراء متباينة، وتناظر الفلاسفة اليونانيين كأفلاطون وسقراط  وشكّلت محاوراتهم إثراءً لا يمحى للفلسفة الإنسانية.
وتناظر الرسول عليه الصلاة والسلام مع نصارى نجران، فتجادلوا في نبوته وفي دين إبراهيم وعيسى ابن مريم، قال ابن عباس‏:‏ اجتمعت نصارى نجران، وأحبارٌ من اليهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنازعُوا عنده، فقالت الأحبارُ‏:‏ ما كان إبراهيمُ إلا يهودياً، وقالت النصارى‏:‏ ما كان إلا نصرانياً، فأنزل الله عَزَّ وجَلَّ على لسان رسوله‏:‏ "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ في إبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإنْجِيلُ إلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ"، وكانوا يُعلنون الكفر صراحةً ويتكلمون مع رسول الله بغلظة حتى أنهم صلّوا صلاتهم في مسجد المسلمين فأرادوا أن يردوهم فمنعهم رسول الله، وكان الرسول يخاطبهم وهم يعلمون أنه مبعوثٌ من الله ولكن الكبر والحسد والتجبّر يمنعهم، وكيف السبيل إلى مجادلة إنسان تعرف أنه متأكد تماماً من ضلالة رأيه، وسلامة رأيك، إلا أنه يتحداك لا لشيءٍ سوى لأنه يكرهك ويحقد عليك، ورغم هذا التعنّت البشري الراسخ لم يُبدِ الرسول من جهته أي امتعاض من محاورة هذه الفئة والردّ على خرافاتها بخُلقٍ حسن، وكذلك يجب على كل مناظرٍ أن يكون.
وفي العصر الحديث ما تزال المناظرات الدينية قائمة على قدمٍ وساق، رغم اختلاف أساليبها، فتناظر البنا وطه حسين، وفرج فوده والشيخ محمد الغزالي، وتناظر الشيخ أحمد ديدات مع القساوسة المسيحيين، وتناظر المتنصّر الأخ رشيد مع عدد من شيوخ الإسلام، وغير ذلك كثير.
والمناظرة القويمة تتطلب الدراية والعلم بموضوع النقاش، والإحاطة به من جميع جوانبه، وتتطلب قدراً واسعاً من الحلم والإنصات والتقدير، وضبط النفس ورحابة الخاطر والابتعاد عن التشبث بالرأي والتعصّب له، وتجنّب الأحكام الجاهزة المسبقة مع صفاء الذهن وسلاسة التفكير، ولذلك يقول الشافعي رحمه الله: "ما ناظرتُ عالماً إلا غلبته، وما ناظرني جاهل إلا غلبني".
ولعل تُراثنا وثقافة مجتمعاتنا تجعل من إثارة بعض النقاط للمناقشة والتمحيص خروجاً عن المألوف، وزيغاً عن الصواب، وبالتالي فالتراث العربي في مجمله كبحَ جماح الحوار المختلف البناء، فأثّر ذلك بشكل سلبي على حرية الرأي والمعتقد وتعدّد وجهات النظر، ولكل من أراد التعمق أكثر في هذه النقطة عليه أن يعود لكتابات الجابري وجورج طرابيشي في الموضوع.
إذا لم تُفكر فيما ينفع الإنسانية ويجمع شملها ويُوحّد أفكارها ويقرّب وجهات النظر بينها، فإنّك حتماً ستفكر فيما يضرّ بها ويفرّق أفرادها ويحرّك بينهم مشاعر الرفض والانتقام، فاختر لنفسك أي طريق تسلك، فالطريق الأولى ستنتهي بنا في يوم من الأيام إلى مجتمع متسامح متآلف، والطريق الثانية ستنتهي بنا في الغالب إلى مجتمع منغلق متطاحن يعود شيئا فشيئا إلى العصور الحجرية. والمناظرة يجب أن تكون ثقافة تُربى في المجتمع، وتُنمى في الأجيال الصاعدة، ولا تقتصر فقط على الأمور الدينية المحضة، بل تُفتح أبواب المناظرات على مصراعيها لحل مسائل السياسة والاقتصاد وآفات المجتمع، ولا بدّ لنا من تهيئ مجتمعٍ يُنصت فيه أفرداه  إلى بعضهم البعض، ويحترمون آراءهم فيما بينهم رغم اختلافها، فالتشبث بالرأي لا يدلّ على صحة رأيك، والإنصات لغيرك لا ينمّ عن ضعفٍ منك، واقتناعك بفكر الآخر لا يدلّ على انهزامك أمامه وانتصارهِ عليك، وإنما يدل على سموّ فكركَ واحترامك لفطرتك.

الإنسان ضعيف.. لا تطلبوا منه المستحيل!


تُريدون من الإنسان أن يُقاوم حتى لا تجد مقاومتُه ما تُقاوم، تريدون أن يتحمّل جبالاً من الصبر وشظف العيش والحرمان فلا يتنهّد أبداً ولو تنهيدةَ الخلاص، تريدون منه أن يتحدى قوانين الطبيعة ويتحدى إنسانيتَه فيعيش خائفاً متهيّباً مما لا يُلائم إنسانيته، تريدون أن ينتظرَ في طابورٍ طويلٍ لا أوّل له ولا آخر، ولا ظلّ له ولا حافز، حتى إذا جاءَ دوره وجدَ السراب وانتهى به الانتظار إلى بهتانٍ عظيم.
تريدون من الإنسان أن يفعلَ الخير ولا خير يُفعلُ له، أن يكون صادقاً مع الناس، ولا صدقَ يتعامل معه، أن يكونَ متفهّماً للأمور من حوله ولا أحد يتفهم معاناته أو يحس بتعاسته وشقاءه، تريدون منه أن يبتسم حين تُفضلون في وجهه الابتسام، وأن يُكشّر حين تدعو الأوضاعُ إلى مزيدٍ من الاستياء والحزن، تريدون أن يكون على أُهبة الاستعداد حين يُطلب منه التفاني في خدمة قضيةٍ أو الدفاعِ عن وطن، ولا يلتفتُ إليه أحدٌ حين يكون أحوج إلى أن يلتفتَ إليه أحد.
هو إنسانٌ متوجّع، أضنته المواجع وكسَرت ظهره وجرفته إلى أعماق الهاوية، وكأنه اقترف كل ما على هذه الأرض من ذنوب، لا يفرُّ إلى بصيص الأمل إلا ويفرُّ منه، ولا يعزِمُ على الرحيل إلا وتَغدرُ به الأمواج، ولا يهربُ بنفسه إلى التلال الخاوية البعيدة إلا وتطرده الأمطار والعواصف في حرّ الصيف، ولا ينزوي وحيداً بعيداً عن الخَلق إلا وتطارده الأشباح والكوابيس، فهو لم يُصفِّ بريئاً، ولم يُجوّع محتاجاً، ولم يَسجن مظلوماً، ولم يفترس حمَلاً وديعاً في ظلمة الليل، ورغم ذلك فهو الموشوم دائماً بوشم الخطيئة، والموصوف دوماً بأوصاف الجُرم والكبيرة، والمغدور من أقرب الناس إليه.
هو ليس بمجنون، وإن كان الجنون يتلبّسه من هول الجوع والعطش فيهذي بما لا يفهم، ويأتي بما لا يُقدّر، وليس هو بقاتل، فالقتل آفة الحِقد والعبث لا يدفعه إليها سوى همزٌ من شياطين الإنس وما أكثرهم، وليس هو بكاذب، فالكذب عادةُ العصر تخترق شرايينه من كثرةِ ما يسمع من لغوِ الكذب وأفعاله، وليس هو بظالم، فكيف يكون المظلوم في حقّه ظالماً والظالم هو المظلوم، وليس بقاسي القلب، فقد أوتي قلباً كبيراً لو تجلّى في عذريته للناس لكفاهم رحمةً ورأفة، ولأنبتتِ الأرض منه أزهاراً سترت قسوة القدر وإرهاب الزمان.
هو مخلوقٌ لا يضرُّ أحد، ولا يُسيء لأحد، وقد يضرُّ ويُسئ فعلاً إذا أُسيء إليه، أو ضرَّه مكروهٌ من أحد، وكذلك طبيعة كل مخلوق، ولقمةُ خبزٍ عفيفةٍ كريمةٍ قد تُشكّل له الغِنى والمُلك، وحقٌّ يراهُ ويعيشُه قد يكفيهِ عن أي شيء آخر، وأمنٌ يتقلّب فيه قد يُهلّل وجهه ويُنسيه بعضاً من آفاته، لكنه قد يُكشّر أنيابه إن غاب هذا وذاك.
ماذا تريدون من الإنسان؟ إنه كائنٌ ضعيف خُلق ضعيفاً، فلا تنتظروا منه أن يخترق آفاق السماء ليأتي لكم بما تطلبون، أو يحفر بأظافره في الصخر ليستخرج لكم الماس الذي تعشقون، أو يستلقي على بطنه مع أقرانه واحداً تلو الآخر ليصنع لكم طريقاً معبدةً تمرّون منها لتُحققوا نزواتكم الجامحة، لا تنتظروا منه كل هذا، فالإنسان ضعيف.. وأنتم من أضعفتموه!

وحين يحلم بأرضٍ في أرضه فلا يجد لذلك سبيلا، وحين يحلمُ في أرضهِ ببيتٍ يأويهِ ويأوي عياله فلا يجد لذلك مُلتفتا، وحين تتكالب عليه الأمراض والأسقام من كل جانب فلا يجدُ من يمنحه ثمنَ الدواء، وحين يصعد قمة الجبل يتأملُ السائرين إلى الكُتّاب وهو يُصوّب بيده الصغيرة ناياً من قصب لينشدَ به لحنَ الأحزان، وحين يُطردُ من أرضه فلا يجد حتى من يُودّعه ويضمد جراحه ويواسي هجرتَه المريرة سوى دموعه الباكية المنهمرة، تريدون منه كلَّ شيء وأيَّ شيء والكثير من الأشياء الأخرى، ولا تُعطونه من نصيبه أي شيء، فلماذا تطلبون كل هذه الأشياء ولا تُحقّقون له ولو قدرا ضئيلاً مما تطلبون؟
تريدون منه أن يتحول إلى بطلٍ مغوارٍ لا تُرهبه قوّة الطبيعة العاتية، ولا تقسمُه نوائبُ الدّهر المتوالية، وهو عاجزٌ كل العجز عن تأمين لقمة عيشٍ واحدة، تريدون منه الفضيلة المُثلى وأنتم تصنعون حوله كلَّ قبيح، وتسبّونه حين يتمرّد على التقاليد والعادات أيّما سبٍّ، وأيّما احتقارٍ، وأيّما تهجم، بيدَ أن كل التقاليد المضنية المعقّدة الطويلة ليس فيها تقليدٌ واحدٌ يحثُّ على صون حقوقه والإشفاق عليه، واحترام أحلامه والإنصات له، والأخذ بيده إلى طريق الحياة، تُريدونه ساحراً يصنع من واقعه العجائب، يُحوّل الصعب إلى لِين، والرخيص إلى عقدٍ ثمين، يبلعُ الغصّات المقهورة في أحشائه درراً من المتاع الموهوم، ويُوجد اللقمة قبل أن تلفظها الحقول الجدباء.




قائمة المدونات الإلكترونية