الجمعة، 16 مارس 2018

الغوطة الشرقية.. من زاوية مظلمة لكنها مؤلمة!


يسقطُ الظلام فيختفي الضوء وتُحجب الرؤية، لكنّك إن حاولتَ النظر من زاوية مغايرة -وإن كانت مظلمة- سترى أشياء بعين الحقيقة قد لا تراها في واضحة النهار وأنتَ تجري وراء لقمة العيش. في حكاية المفارقات العجيبة التي فَقدت معانيها من شدة تعايشنا معها وانصياعنا لها، فتجرّدت من مدلولاتها الأصلية لتتلبّس معاني أخرى تنجرفُ إلى العادة والقبول، هي بالضبط ما تحكيه لنا الأحداث المتعاقبة لتُحرّك فينا الضمير الحيّ إن وُجد، فنتساءل مندهشين من طبيعة الإنسان المتناقضة المتمادية في عالمٍ من المتضادات، وهو الكائن العاقلُ الحسّاس الواضع لأسسِ التفكير المنطقي.
فكما تبكي أمٌّ فقدت كل فلذاتها تحت الأنقاض حتى تمتلئ الأرض من حولها بالدموع، من كانت في البارحة تُلبسُ أبناءَها الثياب الجديدة وتُدفئهم من البرد القارس بحُضنها، تراهم اليوم أمامها جثثاً هامدة تتراءى أطرافهم المسحوقة من بين الجدران المهدمة الملطخة بالدماء، تبكي في الضفة المقابلة أمٌّ بل وتجهشُ بالبكاء وهي ترى ابنتها تخطو خطواتها الصغيرة نحو منصة الغناء المليئة بالأضواء، لتُلقي أغنيتها أمام لجنة التحكيم، تخافُ على فلذة كبدها من الإخفاق والخروج من المسابقة فتدعو الله "يارب يارب" مثلما تتضرع إلى الله تلك الأم المكلومة التي افترشت الأرض وتلحّفت بالسماء بعدما فقدت مُعينها وعائلتها، وكما تخرج الأمّة إلى الشارع بالآلاف تحيي منتخبها المتأهل إلى نهائيات كأس العالم بجدارةٍ أو بدونها، ولا تجد هذه الجحافلُ من وقتٍ بسيط تقضيه في الشوارع وهي تحمل الأعلام السورية والفلسطينية وتصرخ من شعبٍ يُذبح وأُمة تُباد.
وكما تتراقص المنازل وهي تتحطم بقنابلٍ عنقودية وبراميلٍ متفجرة أُلقيت عليها من السماء من طيّارٍ لا تُفارق البسملة شفتيه، فتتمايل أسسها قبل أن تهوي على الأرض، لتدفن من تدفنه من العوائل والأطفال، تُشيَّدُ في الضفة المقابلة منصاتُ الرقص والغناء على مدّ البصر، في نفس الوقت الذي يصعدُ فيه الدخان هناك، وتُوزَّع المنشورات المنظمة لتمنع الرقص والتمايل أثناء الغناء وكأنَّ السهرة أناشيد إسلامية محافظة، متضامنة كما يبدو كل التضامن مع ما يجري من رقصٍ وتمايلٍ هناك من نوع خاص.

وحين ترى جثث أطفال سوريا ملفوفة في أكياس بلاستيكية كُتب عليها بحروف لاتينية ما معناه الأمم المتحدة، ينكشفُ لك وجه الإنسانية البشع، وتتجمع في حلقك غصّةٌ تحمل كل ما على هذه الأرض من مرارةٍ وألم، وقد يحسبها البعض أكياساً أُعدّت للنفايات، وإذا بشعارها يرمز لحقوق الإنسان والعدل والمساواة.

ثم تتجه زاوية النظر إلى الرياضة، بالضبط إلى هدفٍ تاريخي سماه صاحبُه بالكون! سجله في شِباك نظيره الإسرائيلي ولا أعرف من أين أتى بهذه الكلمة، وهو حسب المتتبعين أغلى هدف عرفته الكرة المستديرة إذ بلغت قيمته 15 مليار دولار، لكن المفارقة الغريبة أن الهدف سجّله صاحبه في مرماه ويُريد بذلك أن يُوهم الجماهير العربية المصدومة والعالم كلّه عكس ذلك، وكان لهذا الهدف أثرٌ بالغ إذ قضى كليا على ما تبقى من ذرة كرامة مازال هذا اللاعب المعتوه يتبجّح بها، فيما شكل يوم عيد كبير للخصم، أكلوا فيه الحلوى وشربوا المشروبات ورقصوا حتى الساعات الأولى من الصباح.

ويا ليت لو كان حلم هذا اللاعب في صغره كما قال مائة مليار جنيه وليس مائة مليار دولار، على الأقل كانت ستستفيد العملة المحلية بشكل أفضل وتسدُّ عجز الخزينة العامة للدولة، وكيف لك أن تتمنى اليوم مائة مليار كاملة وقد سجلتَ للتوّ أهدافاً مربحة في شِباك نظيرك الإسرائيلي ستعود عليك بلا شكٍّ بالمال الوفير، فمن يُطارد عصفورين يفقدهما معاً، ولكن مع الأسى والأسف تبخّر الحلم كما تبخر الغاز الطبيعي في الهواء، وأصبح التحدي الأكبر بالنسبة إليك أن تُغيّر الواقع في الواقع وليس في الخيال، وأن لا تتمنى من الله عز وجل سوى أن يمنحكَ جزراً أخرى كي تُحقق بها حلم الصغر!
وتتجه زاوية النظر إلى ما يُعرف بمنظمات المجتمع المدني، والهيئات الإنسانية الدولية التي تُعنى بحماية الإنسان مما قد يتهدّدُه من أخطارٍ محدقة كالاحتباس الحراري والتلوث والإشعاعات الضارة وما إلى ذلك، خوفاً عليه من الهلاك، مع أن الغوطة السورية في أمَس الحاجة لالتفاتةٍ إنسانيةٍ عاجلة، ها هي ذي أمامكم أرونا فيها رحمتكم، حضارتكم، مدنيتكم، تجتمعون من أجل الاحتباس الحراري فتُحذّرون العالم من أخطاره المستقبلية، ها هو ذا الإنسان أمامكم على المباشر يقضي بأبشع الصور التي لا يتحملها الحجر، أليس هؤلاء تنطبق عليهم صفة إنسان؟ أتُفضلون من يمرضون بالزكام من حساسية مُبيدات الحشرات، على من يتمزّقون أشلاءً بالبراميل المتفجرة ويختنقون بغاز السارين؟ كيف تحكمون؟ لو كان الإنسان فعلاً من أولى اهتماماتكم لصَرختُم ملء السماء ضد ما يحدث لمسلمي الروهينغيا من تقتيلٍ وإبادةٍ جماعية على مرأى ومسمع من العالم، ولكنَّ الإنسان في قاموسهم تختلف قيمتُه من منطقةٍ لأخرى، فهي في دول الشمال مغايرة لدول الجنوب، وفي مناطق من العالم تحظى من الرعاية والتقدير ما لا تحظى به في مناطق أخرى أقل حظا، هكذا تختلفُ معايير المنظمات الإنسانية والأمم المتحدة تجاه البشر، لتوهمنا أنها تعمل لأجل سلامتهم وأمنهم في كل ربوع الأرض، والحقيقة ما تعايشون.

ولنعرّج بزاويتنا هذه إلى ما يُدعى حق النقض الفيتو، لنكتشف ما مدى نفاق وتفاهة المنتظم الدولي وفضيحته المدوية وهو يتلاعبُ بأرواح الأبرياء في سوريا وفلسطين والعراق واليمن وغيرهم، وكيف أن أنهارَ دماءِ المدنيين لا تشفعُ أمام ممثل أمريكا وروسيا أو تحرك فيهما شعرةً واحدة حين يرفع أحدُهم يدَه معلناً استخدام حق النقض المشؤوم ضد أي قرارٍ من شأنه أن يضع حدّاً لإزهاق الأرواح ووقف الآلام، وتشتيت العائلات وطمس الهويات، واجتثاث أصحاب الأرض من أراضيهم وتجريد أصحاب الحقوق من حقوقهم، دون أن تُفارق البسمةُ محياه والعجرفةُ نظراته.

ووسط هذه القطرات من بحر المتناقضات الغارقين فيها دونما شعور، أو بالأحرى تناسينا استشعارَها من فرط غشاوة العين حتى أصبح النظر إليها أمراً عابراً لا يُؤثر في النفس ولا يُقلق العقل، إلى اللحظة التي نغير فيها زاوية النظر فتتجلى لنا الأشياء بلباسٍ من المرارة والحقيقة، ولا نَملك سوى أن نسأل الله اللطف فيما جرت به المقادير..فلم نعد نتحمّل..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

قائمة المدونات الإلكترونية